مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ٨٥
الصفة الأولى : سببه وفيه وجوه أحدها : وهو الأصح أن الناس يقومون لمحاسبة رب العالمين، فيظهر هناك هذا التطفيف الذي يظن أنه حقير، فيعرف هناك كثرته واجتماعه، ويقرب منه قوله تعالى : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن : ٤٦] وثانيها : أنه سبحانه يرد الأرواح إلى أجسادها فتقوم تلك الأجساد من مراقدها، فذاك هو المراد من قوله : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وثالثها : قال أبو مسلم معنى : يَقُومُ النَّاسُ هو كقوله : وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة : ٢٣٨] أي لعبادته فقوله : يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لمحض أمره وطاعته لا لشيء آخر، على ما قرره في قوله : وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار : ١٩].
الصفة الثانية : كيفية ذلك القيام،
روي عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قال :«يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف أذنيه»
وعن ابن عمر : أنه قرأ هذه السورة، فلما بلغ قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بكى نحيبا حتى عجز عن قراءة ما بعده».
الصفة الثالثة : كمية ذلك القيام،
روي عنه عليه السلام أنه قال :«يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر»
وعن ابن مسعود :«يمكثون أربعين عاما ثم يخاطبون» وقال ابن عباس : وهو في حق المؤمنين كقدر انصرافهم من الصلاة.
واعلم أنه سبحانه جمع في هذه الآية أنواعا من التهديد، فقال أولا : وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين : ١] وهذه / الكلمة تذكر عند نزول البلاء، ثم قال ثانيا : أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ وهو استفهام بمعنى الإنكار، ثم قال ثالثا : لِيَوْمٍ عَظِيمٍ والشيء الذي يستعظمه اللّه لا شك أنه في غاية العظمة، ثم قال رابعا : يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وفيه نوعان من التهديد أحدهما : كونهم قائمين مع غاية الخشوع ونهاية الذلة والانكسار والثاني : أنه وصف نفسه بكونه ربا للعالمين، ثم هاهنا سؤال وهو كأنه قال قائل : كيف يليق بك مع غاية عظمتك أي تهيء هذا المحفل العظيم الذي هو محفل القيلة لأجل الشيء الحقير الطفيف؟ فكأنه سبحانه يجيب، فيقول عظمة الإلهية لا تتم إلا بالعظمة في القدرة والعظمة في الحكمة، فعظمة القدرة ظهرت بكوني ربا للعالمين، لكن عظمة الحكمة لا تظهر إلا بأن انتصف للمظلوم من الظالم بسبب ذلك القدر الحقير الطفيف، فإن الشيء كلما كان أحقر وأصغر كان العلم الواصل إليه أعظم وأتم، فلأجل إظهار العظمة في الحكمة أحضرت خلق الأولين والآخرين في محفل القيامة، وحاسبت المطفف لأجل ذلك القدر الطفيف. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب وإخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال : من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه، فليس بمنصف والمعاشرة والصحبة من هذه الجملة، والذي يرى عيب الناس، ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس، ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه لنفسه، فهو من هذه الجملة والفتى من يقضي حقوق الناس ولا يطلب من أحد لنفسه حقا.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٧ إلى ١٧]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)


الصفحة التالية
Icon