مفاتيح الغيب، ج ٣١، ص : ٩٠
بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، أما قوله تعالى : ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ فالمعنى لما صاروا محجوبين في عرصة القيامة إما عن رؤية اللّه على قولنا، أو عن رحمة اللّه وكرامته على قول المعتزلة، فعند ذلك يؤمر بهم إلى النار ثم إذا دخلوا النار، وبخوا بتكذيبهم بالبعث والجزاء، فقيل لهم : هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا، والآن قد عاينتموه فذوقوه.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٨ إلى ٢١]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الفجار المطففين، أتبعه بذكر حال الأبرار الذين لا يطففون، فقال : كَلَّا أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث ومن أن كتاب اللّه أساطير الأولين. واعلم أن لأهل اللغة في لفظ عِلِّيِّينَ أقوالا، ولأهل التفسير أيضا أقوالا، أما أهل اللغة قال / أبو الفتح الموصلي : عِلِّيِّينَ جمع علي وهو فعيل من العلو، وقال الزجاج : إعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع، كما تقول : هذه قنسرون ورأيت قنسرين، وأما المفسرون فروي عن ابن عباس أنها السماء الرابعة، وفي رواية أخرى إنها السماء السابعة، وقال قتادة ومقاتل : هي قائمة العرش اليمنى فوق السماء السابعة، وقال الضحاك : هي سدرة المنتهى، وقال الفراء : يعني ارتفاعا بعد ارتفاع لا غاية له، وقال الزجاج : أعلى الأمكنة، وقال آخرون :
هي مراتب عالية محفوظة بالجلالة قد عظمها اللّه وأعلى شأنها، وقال آخرون : عند كتاب أعمال الملائكة، وظاهر القرآن يشهد لهذا القول الأخير لأنه تعالى قال لرسوله : وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تنبيها له على أنه معلوم له، وأنه سيعرفه ثم قال : كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ فبين أن كتابهم في هذا الكتاب المرقوم الذي يشهده المقربون من الملائكة، فكأنه تعالى كما وكلهم باللوح المحفوظ فكذلك يوكلهم بحفظ كتب الأبرار في جملة ذلك الكتاب الذي هو أم الكتاب على وجه الإعظام له ولا يمتنع أن الحفظة إذا صعدت بكتب الأبرار فإنهم يسلمونها إلى هؤلاء المقربين فيحفظونها كما يحفظون كتب أنفسهم أو ينقلون ما في تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار، فلذلك يحاسبون حسابا يسيرا، لأن هؤلاء المقربين يشهدون لهم بما حفظوه من أعمالهم، وإذا كان هذا الكتاب في السماء صح قول من تأول ذلك على أنه في السماء العالية، فتتقارب الأقوال في ذلك، وإذا كان الذي ذكرناه أولى.
واعلم أن المعتمد في تفسير هذه الآية ما بينا أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة، فلما كان المقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين، وفي أضيق المواضع إذلال الفجار وتحقير شأنهم، كان المقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين، وشهادة الملائكة لهم بذلك إجلالهم وتعظيم شأنهم، وفي الآية وجه آخر، وهو أن المراد من الكتاب الكتابة، فيكون المعنى أن كتابة أعمال الأبرار في عليين، ثم وصف عليين بأنه كتاب مرقوم فيه جميع أعمال الأبرار، وهو قول أبي مسلم.


الصفحة التالية
Icon