مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٠٩
المسألة الثانية : قال ابن عباس : يقول اللّه تعالى : خلقت عسرا واحدا بين يسرين، فلن يغلب عسر يسرين، وروى مقاتل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :«لن يغلب عسر يسرين» وقرأ هذه الآية،
وفي تقرير هذا المعنى وجهان الأول : قال الفراء والزجاج : العسر مذكور بالألف واللام، وليس هناك معهود سابق فينصرف إلى الحقيقة، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئا واحدا. وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير، فكان أحدهما غير الآخر، وزيف الجرجاني هذا وقال : إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، يلزم أن يكون هناك فارس واحد ومعه سيفان، ومعلوم أن ذلك غير لازم من وضع العربية الوجه الثاني :
أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى، كما كرر قوله : وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المطففين : ١٠] ويكون الغرض تقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب، كما يكرر المفرد في قولك : جاءني زيد زيد، والمراد من اليسرين : يسر الدنيا وهو ما تيسر من استفتاح البلاد، ويسر الآخرة وهو ثواب الجنة، لقوله تعالى : قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة : ٥٢] وهما حسن الظفر وحسن الثواب، فالمراد من
قوله :«لن يغلب عسر يسرين»
هذا، وذلك لأن عسر الدنيا بالنسبة إلى يسر الدنيا ويسر الآخرة كالمغمور القليل، وهاهنا سؤالان.
الأول : ما معنى التنكير في اليسر؟ جوابه : التفخيم، كأنه قيل : إن مع اليسر يسرا، إن مع العسر يسرا عظيما، وأي يسر.
السؤال الثاني : اليسر لا يكون مع العسر، لأنهما ضدان فلا يجتمعان الجواب : لما / كان وقوع اليسر بعد العسر بزمان قليل، كان مقطوعا به فجعل كالمقارن له. ثم قال تعالى :
[سورة الشرح (٩٤) : آية ٧]
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧)
وجه تعلق هذا بما قبله أنه تعالى لما عدد عليه نعمه السالفة، ووعدهم بالنعم الآتية، لا جرم بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، فقال : فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي فاتعب يقال : نصب ينصب، قال قتادة والضحاك ومقاتل : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك، وقال الشعبي : إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقال مجاهد : إذا فرغت من أمر دنياك فانصب وصل، وقال عبد اللّه : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وقال الحسن : إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة، وقال علي بن أبي طلحة : إذا كنت صحيحا فانصب، يعني اجعل فراغك نصبا في العبادة يدل عليه ما روي أن شريحا مر برجلين يتصارعان، فقال : الفارغ ما أمر بهذا إنما قال اللّه : فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وبالجملة فالمعنى أن يواصل بين بعض العبادات وبعض، وأن لا يخلي وقتا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى. وأما قوله تعالى :
[سورة الشرح (٩٤) : آية ٨]
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)
ففيه وجهان أحدهما : اجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه وثانيها : ارغب في سائر ما تلتمسه دينا ودنيا ونصرة على الأعداء إلى ربك، وقرئ فرغب أي رغب الناس إلى طلب ما عنده، واللّه سبحانه وتعالى أعلم وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.