مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٤٦
المذكور هو دين القيمة وإنما قلنا : إن الدين هو الإسلام لقوله تعالى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران : ١٩] وإنما قلنا : إن الإسلام هو الإيمان لوجهين الأول : أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا عند اللّه تعالى لقوله تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران : ٨٥] لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند اللّه، فهو إذا عين الإسلام والثاني : قوله تعالى : فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات : ٣٥، ٣٦] فاستثناء المسلم من المؤمن، يدل على أن الإسلام يصدق عليه، وإذا ثبتت هذه المقدمات، ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان، وحينئذ يبطل قول من قال : الإيمان اسم لمجرد المعرفة، أو لمجرد الإقرار أولهما معاو الجواب : لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله :
وَذلِكَ إلى الإخلاص فقط؟ والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى، وأنتم تحتاجون إلى الإضمار فتقولون : المراد وذلك المذكور، ولا شك أن عدم الإضمار أولى، سلمنا أن قوله : وَذلِكَ إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم، فلم قلتم : إن ذلك المجموع هو الدين، وذلك لأن الدين غير، والدين القيم، فالدين هو الدين الكامل المستقبل بنفسه، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلا، وكانت آثاره ونتائجه معه حاصلة أيضا، وهي الصلاة والزكاة، وإذا لم يوجد هذا المجموع، لم يكن الدين القيم حاصلا، لكن لم قلتم : إن أصل الدين لا يكون حاصلا والنزاع ما وقع إلا فيه؟ واللّه أعلم.
[سورة البينة (٩٨) : آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦)
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولا في قوله : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة : ١] ثم ذكر ثانيا حال المؤمنين في قوله : وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة : ٥] أعاد في آخر هذه السورة ذكر كلا الفريقين، فبدأ أيضا بحال الكفار، فقال : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين أحدهما : الخلود في نار جهنم والثاني : أنهم شر الخلق، وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر؟ الجواب : من وجوه أحدها : أنه عليه الصلاة والسلام، كان يقدم حق اللّه سبحانه على حق نفسه، ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته
قال :«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»
ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق
قال :«اللهم املأ بطونهم وقبورهم نارا»
فكأنه عليه السلام قال : كانت الضربة ثم على، وجه الصورة، وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة، ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال : كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حق نفسي، فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر. إذا عرفت ذلك فنقول : أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في اللّه بل في الرسول، وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في اللّه، فلما أراد اللّه تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولا في النكاية بذكر من طعن في محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب، ثم ثانيا بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون وثانيها : أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم، لأن المشركين رأوه صغيرا ونشأ فيما «١» بينهم، ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم، وهذا أمر شاق، أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد.

(١) لعل الأولى أن يقال : ونشأ يتيما بينهم، ولعل فيما صحفت عن يتيما.


الصفحة التالية
Icon