مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٥٠
المسألة الثانية : الجزاء اسم لما يقع به الكفاية، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء، فهذا يفيد معنيين أحدهما : أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص والثاني : أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلا على ما قال : وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
[فصلت : ٣١].
المسألة الثالثة : قال : جَزاؤُهُمْ فأضاف الجزاء إليهم، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله : الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر : ٣٥] والجواب : أما أهل السنة فإنهم يقولون : إنه لو قال الملك الكريم : من حرك إصبعه أعطيته ألف دينار، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي، فقوله : جَزاؤُهُمْ يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا : في قوله تعالى : الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ إن كلمة من لابتداء الغاية، فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة. فإن قيل : فإذا كان لا حق لأحد عليه في مذهبكم، فما السبب في التزام مثل هذا الإنعام؟ قلنا : أتسأل عن إنعامه الأمسي حال عدمنا؟ أو عن إنعامه اليومي حال التكليف؟ أو عن إنعامه في غد القيامة؟ فإن سألت عن الأمسي فكأنه يقول : أنا منزه عن الانتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه، كما
روى :«الخلق عيال اللّه»
وأما اليومي فالنعمان «١» يوجب الإتمام بعد الشروع فالرحمن أولى وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك.
المسألة الرابعة : في قوله : عِنْدَ رَبِّهِمْ لطائف :
أحدها : قال بعض الفقهاء : لو قال : لا شيء لي على فلان، فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة، ولو قال : لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولو قال : لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا، إذا عرفت هذا فقوله : عِنْدَ رَبِّهِمْ يفيد أنه وديعة والوديعة عين، ولو قال : لفلان علي فهو إقرار بالدين، والعين أشرف من الدين فقوله : عِنْدَ رَبِّهِمْ يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد، فإن قيل : الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون، قلنا : المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق اللّه تعالى محال، فلا جرم قلنا : الوديعة هناك خير من المضمون.
وثانيها : إذا وقعت الفتنة في البلدة، فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب، فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك، وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها، فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتابا يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله : جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة.
وثالثها : أنه قال : عِنْدَ رَبِّهِمْ وفيه بشارة عظيمة، كأنه تعالى يقول : أنا الذي ربيتك أولا حين كنت معدوما صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة، فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقا

(١) يراد بالنعمان الوصفية من الإنعام، أو الاسمية والاسمية نص الأولى يقصد النعمان بن المنذر بن ماء السماء، وهو.


الصفحة التالية
Icon