مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٦٣
المسألة الأولى : القول في : بُعْثِرَ مضى في قوله تعالى : وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار : ٤] وذكرنا أن معنى : بُعْثِرَتْ بعث وأثير وأخرج، وقرئ (بحثر).
المسألة الثانية : لقائل أن يسأل لم قال : بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ولم يقل : بعثر من في القبور؟ ثم إنه لما قال : ما فِي الْقُبُورِ، فلم قال : إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ ولم يقل : إن ربها بها يومئذ لخبير؟ الجواب عن السؤال الأول : هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو يقال : إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك، فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء. ثم قال تعالى :
[سورة العاديات (١٠٠) : آية ١٠]
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠)
قال أبو عبيدة : أي ميز ما في الصدور، وقال الليث : الحاصل من كل شيء ما بقي وثبت وذهب سواه، والتحصيل تمييز ما يحصل والاسم الحصيلة قال لبيد :
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه إذا حصلت عند الإله الحصائل
وفي التفسير وجوه أحدها : معنى حصل جمع في الصحف، أي أظهرت محصلا مجموعا وثانيها : أنه لا بد من التمييز بين الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور، فإن لكل واحد ومنه قيل للمنخل :
المحصل وثالثها : أن كثيرا ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره، أما في يوم القيامة فإنه تنكشف الأسرار وتنتهك الأستار، ويظهر ما في البواطن، كما قال : يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق : ٩].
واعلم أن حظ الوعظ منه أن يقال : إنك تستعد فيما لا فائدة لك فيه، فتبني المقبرة وتشتري / التابوت، وتفصل الكفن وتغزل العجوز الكفن، فيقال : هذا كله للديدان، فأين حظ الرحمن! بل المرأة إذا كانت حاملا فإنها تعد للطفل ثيابا، فإذا قلت لها : لا طفل لك فما هذا الاستعداد؟ فتقول : أليس يبعثر ما في بطني؟ فيقول الرب لك : ألا يبعثر ما في بطن الأرض فأين الاستعداد، وقرئ (و حصل) بالفتح والتخفيف بمعنى ظهر. ثم قال :
[سورة العاديات (١٠٠) : آية ١١]
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)
اعلم أن فيه سؤالات :
الأول : أنه يوهم أن علمه بهم في ذلك اليوم إنما حصل بسبب الخبرة، وذلك يقتضي سبق الجهل وهو على اللّه تعالى محال : الجواب من وجهين أحدهما : كأنه تعالى يقول : إن من لم يكن عالما، فإنه يصير بسبب الاختبار عالما، فمن كان لم يزل عالما أن يكون خبيرا بأحوالك! وثانيهما : أن فائدة تخصيص ذلك الوقت في قوله : يَوْمَئِذٍ مع كونه عالما لم يزل أنه وقت الجزاء، وتقريره لمن الملك كأنه يقول : لا حاكم يروج حكمه ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو، وكم عالم لا يعرف الجواب وقت الواقعة ثم يتذكره بعد ذلك، فكأنه تعالى يقول : لست كذلك.
السؤال الثاني : لم خص أعمال القلوب بالذكر في قوله : وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ وأهمل ذكر أعمال الجوارح؟


الصفحة التالية
Icon