مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٢٨٩
وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه فهلكوا في كل طريق ومنهل، ودوى أبرهة فتساقطت أنامله، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتا بين يديه، وعن عائشة قالت : رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان،
ثم في الآية سؤالات.
الأول : لم قال : أَلَمْ تَرَ مع أن هذه الواقعة وقعت قبل المبعث بزمان طويل؟ الجواب : المراد من الرؤية العلم والتذكير، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر فكان العلم الحاصل به ضروريا مساويا في القوة والجلاء للرؤية، ولهذا السبب قال لغيره على سبيل الذم : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [يس : ٣١] لا يقال : فلم قال : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة : ١٠٦] لأنا نقول : الفرق أن ما لا يتصور إدراكه لا يستعمل فيه إلا العلم لكونه قادرا، وأما الذي يتصور إدراكه كفرار الفيل، فإنه يجوز أن يستعمل فيه الرؤية.
السؤال الثاني : لم قال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ ولم يقل : ألم تر ما فعل ربك؟ الجواب : لأن الأشياء لها ذوات، ولها كيفيات باعتبارها يدل على مداومتها وهذه الكيفية هي التي يسميها المتكلمون وجه الدليل، واستحقاق المدح إنما يحصل برؤية هذه الكيفيات لا برؤية الذوات ولهذا قال : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها [ق : ٦] ولا شك أن هذه الواقعة كانت دالة على قدرة الصانع وعلمه وحكمته، وكانت دالة على شرف محمد صلى اللّه عليه وسلم، وذلك لأن مذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسا لنبوتهم وإرهاصا لها، ولذلك قالوا : كانت الغمامة تظله، وعند المعتزلة أن ذلك لا يجوز، فلا جرم زعموا أنه لا بد وأن يقال : كان في ذلك الزمان نبي [أو خطيب ] كخالد بن سنان أو قس بن ساعدة، ثم قالوا : ولا يجب أن يشتهر وجودهما، ويبلغ إلى حد التواتر، لاحتمال أنه كان مبعوثا إلى جمع قليلين، فلا جرم لم يشتهر خبره.
واعلم أن قصة الفيل واقعة على الملحدين جدا، لأنهم ذكروا في الزلازل والرياح والصواعق وسائر الأشياء التي عذب اللّه تعالى بها الأمم أعذارا ضعيفة، أما هذه الواقعة فلا تجري فيها تلك الأعذار، لأنها ليس في شيء من الطبائع والحيل أن يقبل طير معها حجارة، فتقصد قوما دون قوم فتقتلهم، ولا يمكن أن يقال : إنه كسائر الأحاديث الضعيفة لأنه لم يكن بين عام الفيل ومبعث الرسول إلا نيف وأربعون سنة «١» ويوم تلا الرسول هذه السورة كان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة، ولو كان النقل ضعيفا لشافهوه بالتكذيب، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا سبب للطعن فيه.
السؤال الثالث : لم قال : فَعَلَ ولم يقل : جعل ولا خلق ولا عمل؟ الجواب : لأن خلق يستعمل لابتداء الفعل، وجعل للكيفيات قال تعالى : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام : ١] وعمل بعد الطلب وفعل عام فكان أولى لأنه تعالى خلق الطيور وجعل طبع الفيل على خلاف ما كانت عليه،