مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٠٩
ثم شرف أمته في سورة والعصر بأمور ثلاثة أولها : الإيمان : إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وثانيها : وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وثالثها : إرشاد الخلق إلى الأعمال الصالحة، وهو التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
ثم شرفه في سورة الهمزة بأن ذكر أن من همز ولمز، فله ثلاثة أنواع من العذاب أولها : أنه لا ينتفع بدنياه ألبتة، وهو قوله : يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا وثانيها : أنه ينبذ في الحطمة، وثالثها : أنه يغلق عليه تلك الأبواب حتى لا يبقى له رجاء في الخروج، وهو قوله : إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ.
ثم شرفه في سورة الفيل بأن رد كيد أعدائه في نحرهم من ثلاثة أوجه أولها : جعل كيدهم في تضليل وثانيها : أرسل عليهم طيرا أبابيل وثالثها : جعلهم كعصب مأكول.
ثم شرفه في سورة قريش بأنه راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه أولها : جعلهم مؤتلفين متوافقين لإيلاف قريش وثانيها : أطعمهم من جوع وثالثها : أنه آمنهم من خوف.
وشرفه في سورة الماعون بأن وصف المكذبين بدينه بثلاثة أنواع من الصفات المذمومة أولها : الدناءة واللؤم وهو قوله : يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وثانيها : ترك تعظيم الخالق وهو قوله : عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وثالثها : ترك انتفاع الخلق، وهو قوله : وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ.
ثم إنه سبحانه وتعالى لما شرفه في هذه السور من هذه الوجوه العظيمة قال بعدها : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي إنا أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة المذكورة في السور المتقدمة التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، فاشتغل أنت بعبادة هذه الرب وبإرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم، أما عبادة الرب فإما بالنفس وهو قوله : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وإما بالمال، وهو قوله : وَانْحَرْ وأما إرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم في دينهم ودنياهم فهو قوله : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ فثبت أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وأما أنها كالأصل لما بعدها فهو أنه تعالى يأمره بعد هذه السورة بأن يكفر جميع أهل الدنيا بقوله : يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ومعلوم أن عسف الناس على مذاهبهم وأديانهم أشد من عسفهم على أرواحهم وأموالهم، وذلك أنهم يبذلون أموالهم وأرواحهم في نصرة أديانهم، فلا جرم كان الطعن في مذاهب الناس يثير من العداوة والغضب ما لا يثير سائر المطاعن، فلما أمره بأن يكفر جميع أهل الدنيا، ويبطل أديانهم لزم أن يصير جميع أهل الدنيا في غاية العداوة له، وذلك مما يحترف عنه كل أحد من الخلق فلا يكاد يقدم عليه، وانظر إلى موسى عليه السلام كيف / كان يخاف من فرعون وعسكره.
وأما هاهنا فإن محمدا عليه السلام لما كان مبعوثا إلى جميع أهل الدنيا، كان كل واحد من الخلق، كفرعون بالنسبة إليه، فدبر تعالى في إزالة هذا الخوف الشديد تدبيرا لطيفا، وهو أنه قدم على تلك السورة هذه السورة فإن قوله : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ يزيل عنه ذلك الخوف من وجوه أحدها : أن قوله : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي الخير الكثير في الدنيا والدين، فيكون ذلك وعدا من اللّه إياه بالنصرة والحفظ وهو كقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال : ٦٤] وقوله : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة : ٦٧] وقوله : إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة : ٤٠] ومن كان اللّه تعالى ضامنا لحفظه، فإنه لا يخشى أحدا وثانيها : أنه تعالى لما قال : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة، والخلف في كلام اللّه تعالى


الصفحة التالية
Icon