مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣١١
الشيء المسمى بالكوثر، وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة، ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب، فيا لها من نعمة ما أعظمها وما أجلها، ويا له من تشريف ما أعلاه.
الفائدة الثالثة : أن الهداية وإن كانت قليلة لكنها بسبب كونها واصلة من المهدي العظيم تصير عظيمة، ولذلك فإن الملك العظيم إذا رمى تفاحة لبعض عبيده على سبيل الإكرام يعد ذلك إكراما عظيما، لا لأن لذة الهدية في نفسها، بل لأن صدورها من المهدي العظيم يوجب كونها عظيمة، فههنا الكوثر وإن كان في نفسه في غاية الكثرة، لكنه بسبب صدوره من ملك الخلائق يزداد عظمة وكمالا.
الفائدة الرابعة : أنه لما قال : أَعْطَيْناكَ قرن به قرينة دالة على أنه لا يسترجعها، وذلك لأن من مذهب أبي حنيفة أنه يجوز للأجنبي أن يسترجع موهوبه، فإن أخذ عوضا وإن قل لم يجز له ذلك الرجوع، لأن من وهب شيئا يساوي ألف دينار إنسانا، ثم طلب منه مشطا يساوي فلسا فأعطاه، سقط حق الرجوع فههنا لما قال :
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ طلب منه الصلاة والنحر وفائدته إسقاط حق الرجوع.
الفائدة الخامسة : أنه بنى الفعل على المبتدأ، وذلك يفيد التأكيد والدليل عليه أنك لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصبر مشتاقا إلى معرفة أنه بما ذا يخبر عنه، فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة / ومن هاهنا تعرف الفخامة في قوله : فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج : ٤٦] فإنه أكثر فخامة مما لو قال : فإن الأبصار لا تعمى، ومما يحقق قولنا قول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له : أنا أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بأمرك وذلك إذا كان الموعود به أمرا عظيما قلما تقع المسامحة به فعظمه يورث الشك في الوفاء به، فإذا أسند إلى المتكفل العظيم، فحينئذ يزول ذلك الشك، وهذه الآية من هذا الباب لأن الكوثر شيء عظيم، قلما تقع المسامحة به فلما قدم المبتدأ وهو قوله : إِنَّا صار ذلك الإسناد مزيلا لذلك الشك ودافعا لتلك الشبهة.
الفائدة السادسة : أنه تعالى صدر الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم، وكلام الصادق مصون عن الخلف، فكيف إذا بالغ في التأكيد.
الفائدة السابعة : قال : أَعْطَيْناكَ ولم يقل : سنعطيك لأن قوله : أَعْطَيْناكَ يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلا في الماضي، وهذا فيه أنواع من الفوائد إحداها : أن من كان في الزمان الماضي أبدا عزيزا مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك، ولهذا
قال عليه السلام :«كنت نبيا وآدم بين الماء والطين»
وثانيها : أنها إشارة إلى أن حكم اللّه بالإسعاد والإشقاء والإغناء والإفقار، ليس أمرا يحدث الآن، بل كان حاصلا في الأزل وثالثها : كأنه يقول : إنا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية! ورابعها : كأنه تعالى يقول : نحن ما اخترناك وما فضلناك لأجل طاعتك، وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة، بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب، وهو إشارة إلى
قوله عليه الصلاة والسلام :«قبل من قبل لا لعلة، ورد من رد لا لعلة».
الفائدة الثامنة : قال : أَعْطَيْناكَ ولم يقل أعطينا الرسول أو النبي أو العالم أو المطيع، لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية وقعت معللة بذلك الوصف، فلما قال : أَعْطَيْناكَ علم أن تلك العطية غير معللة بعلة


الصفحة التالية
Icon