مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٢٩ تصرح بالرد عليهم قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وإن فرعون لما ادعى الإلهية فجبريل ملأ فاه من الطين فإن كنت ضعيفا فلست أضعف من بعوضة نمروذ، وإن كنت قويا فلست أقوى من جبريل، فأظهر الإنكار عليهم وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون الثاني والأربعون : كأنه تعالى يقول يا محمد قل بلسانك لا أعبد ما تعبدون واتركه قرضا علي فإني أقضيك هذا القرض على أحسن الوجوه، ألا ترى أن النصراني إذا قال : أشهد أن محمدا رسول اللّه فأقول أنا لا أكتفي بهذا ما لم تصرح بالبراءة عن النصرانية، فلما أوجبت على كل مكلف أن يتبرأ بصريح لسانه عن كل دين يخالف دينك فأنت أيضا أوجب على نفسك أن تصرح برد كل معبود غيري فقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون الثالث والأربعون : أن موسى عليه السلام كان في طبعه الخشونة فلما أرسل إلى فرعون قيل له : فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه : ٤٤] وأما محمد عليه السلام فلما أرسل إلى الخلق أمر بإظهار الخشونة تنبيها على أنه في غاية الرحمة، فقيل له : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون.
أما قوله تعالى : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : يا أَيُّهَا، قد تقدم القول فيها في مواضع، والذي نزيده هاهنا، أنه
روى عن علي عليه السلام أنه قال : يا نداء النفس وأي نداء القلب، وها نداء الروح،
وقيل : يا نداء الغائب وأي للحاضر، وها للتنبيه، كأنه يقول : أدعوك ثلاثا ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك الخفي، ومنهم من قال : أنه تعالى جمع بين يا الذي هو للبعيد، وأي الذي هو للقريب، كأنه تعالى يقول : معاملتك معي وفرارك عني يوجب البعد البعيد، لكن إحساني إليك، ووصول نعمتي إليك توجب القرب القريب : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق : ١٦] وإنما قدم يا الذي يوجب البعد على أي الذي يوجب القرب، كأنه يقول : التقصير منك والتوفيق مني، ثم ذكرها بعد ذلك لأن / ما يوجب البعد الذي هو كالموت وأي يوجب القرب الذي هو كالحياة، فلما حصلا حصلت حالة متوسطة بين الحياة والموت، وتلك الحالة هي النوم، والنائم لا بد وأن ينبه وها كلمة تنبيه، فلهذا السبب ختمت حروف النداء بهذا الحرف.
المسألة الثانية :
روي في سبب نزول هذه السورة أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، قالوا لرسول اللّه تعالى : حتى نعبد إلهك مدة، وتعبد آلهتنا مدة، فيحصل مصلح بيننا وبينك، وتزول العداوة من بيننا، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا، فنزلت هذه السورة ونزل أيضا قوله تعالى : قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر : ٦٤]
فتارة وصفهم بالجهل وتارة بالكفر، واعلم أن الجهل كالشجرة، والكفر كالثمرة، فلما نزلت السورة وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه، وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : لم ذكرهم في هذه السورة بالكافرين، وفي الأخرى بالجاهلين؟ الجواب : لأن هذه السورة بتمامها نازلة فيهم، فلا بد وأن تكون المبالغة هاهنا أشد، وليس في الدنيا لفظ أشنع ولا أبشع من لفظ الكافر، وذلك لأنه صفة ذم عند جميع الخلق سواء كان مطلقا أو مقيدا، أما لفظ الجهل فإنه عند التقييد قد لا يذم،
كقوله عليه السلام في علم الأنساب :«علم لا ينفع وجهل لا يضر».
السؤال الثاني : لما قال تعالى في سورة (لم تحرم) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا [التحريم : ٧] ولم يذكر قل، وهاهنا ذكر قل، وذكره باسم الفاعل والجواب : الآية المذكورة في سورة لم تحرم إنما تقال لهم يوم القيامة وثمة


الصفحة التالية
Icon