مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٤٦
لقد أحسن اللّه فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي
والجواب : عن السؤال الثاني من وجوه أحدها : لعله خص هذه الأمة بزيادة شرف لأنه لا يقال في صفات العبد غفار، ويقال : تواب إذا كان آتيا بالتوبة، فيقول تعالى : كنت لي سميا من أول الأمر أنت مؤمن، وأنا مؤمن، وإن كان المعنى مختلفا فتب حتى تصير سميا لي آخر الأمر، فأنت تواب، وأنا تواب، ثم إن التواب في حق اللّه، هو أن تعالى يقبل التوبة كثيرا فنبه على أنه يجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيرا وثانيها : إنما قيل :
توابا لأن القائل قد يقول : أستغفر اللّه وليس بتائب، ومنه
قوله :«المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزئ بربه»
إن قيل : فقد يقول : أتوب وليس بتائب، قلنا : فإذا يكون كاذبا، لأن التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذبا فيه، فصار تقدير الكلام، واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار، وكذا خواتيم الأعمال، وروي أنه لم يجلس مجلسا إلا ختمه بالاستغفار
والجواب : عن السؤال الثالث أنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرتين وذكر اسم الفعل مرتين أحدهما :
الرب والثاني : التواب، ولما كانت التربية تحصل أولا والتوابية آخرا، لا جرم ذكر اسم الرب أولا واسم التواب آخرا.
المسألة التاسعة : الصحابة اتفقوا على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
روي أن العباس عرف ذلك وبكى فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : ما يبكيك فقال : نعيت إليك نفسك فقال : الأمر كما تقول، وقيل : إن ابن عباس هو الذي قال ذلك فقال عليه الصلاة والسلام :«لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا»
روي أن عمر كان يعظم ابن عباس ويقربه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن : أتأذن لهذا الفتى معنا، وفي أبنائنا من هو مثله؟
فقال : لأنه ممن قد علمتم قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول اللّه : إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وكأنه ما سألهم إلا من أجلي فقال بعضهم : أمر اللّه نبيه إذا فتح أن يستغفره ويتوب إليه، فقلت : ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه فقال عمر : ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعد ما ترون، وروي أنه لما نزلت هذه السورة خطب وقال :«إن عبدا خيره اللّه بين الدنيا وبين لقائه والآخرة فاختار لقاء اللّه»
فقال السائل : وكيف دلت هذه السورة على هذا المعنى؟ الجواب : من وجوه أحدها : قال بعضهم :
إنما عرفوا ذلك لما روينا أن الرسول خطب عقيب السورة وذكر التخيير وثانيها : أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا دل ذلك على حصول الكمال والتمام، وذلك يعقبه الزوال كما قيل :
إذا تم شيء دنا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم
وثالثها : أنه أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا واشتغاله به يمنعه عن الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك لكان كالمعزول عن الرسالة وأنه غير جائز ورابعها : قوله : وَاسْتَغْفِرْهُ تنبيه على قرب الأجل كأنه يقول قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر، ونبهه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله أن يستكثر من التوبة وخامسها : كأنه قيل له : كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته، وهو النصر والفتح والاستيلاء، واللّه تعالى وعدك بقوله : وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى [الضحى : ٤] فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادات العالية.


الصفحة التالية
Icon