مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٥١
الرسول بذلك حتى عظم غضبه وأظهر العداوة الشديدة، فصار بسبب تلك العداوة متهما في القدح في محمد عليه الصلاة والسلام، فلم يقبل قوله فيه بعد ذلك وثانيها : أن الحكمة في ذلك أن محمدا لو كان يداهن أحدا في الدين ويسامحه فيه، لكانت تلك المداهنة والمسامحة مع عمه الذي هو قائم مقام أبيه، فلما لم تحصل هذه المداهنة معه انقطعت الأطماع وعلم كل أحد أنه لا يسامح أحدا في شيء يتعلق بالدين أصلا وثالثها : أن الوجه الذي ذكرتم كالمتعارض، فإن كونه عما يوجب أن يكون له الشفقة العظيمة عليه، فلما انقلب الأمر وحصلت العداوة العظيمة، لا جرم استحق التغليظ العظيم.
السؤال الثالث : ما السبب في أنه لم يقل قل تبت يدا أبي لهب وتب وقال في سورة الكافرون : قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ؟ الجواب : من وجوه الأول : لأن قرابة العمومة تقتضي / رعاية الحرمة فلهذا السبب لم يقل له :
قل ذلك لئلا يكون مشافها لعمه بالشتم بخلاف السورة الأخرى فإن أولئك الكفار ما كانوا أعماما له الثاني : أن الكفار في تلك السورة طعنوا في اللّه فقال اللّه تعالى : يا محمد أجب عنهم : قل يا أيها الكافرون وفي هذه السورة طعنوا في محمد، فقال اللّه تعالى أسكت أنت فإن أشتمهم : تبت يدا أبي لهب الثالث : لما شتموك، فاسكت حتى تندرج تحت هذه الآية : وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان : ٦٣] وإذا سكت أنت أكون أنا المجيب عنك،
يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتا، فجعل الرسول يدفع ذلك الشاتم ويزجره، فلما شرع أبو بكر في الجواب سكت الرسول، فقال أبو بكر : ما السبب في ذلك؟ قال : لأنك حين كنت ساكتا كان الملك يجيب عنك، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان.
واعلم أن هذا تنبيه من اللّه تعالى على أن من لا يشافه السفيه كان اللّه ذابا عنه وناصرا له ومعينا.
السؤال الرابع : ما الوجه في قراءة عبد اللّه بن كثير المكي حيث كان يقرأ : أَبِي لَهَبٍ ساكنة الهاء؟
الجواب : قال أبو علي : يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر، وأجمعوا في قوله :
سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ [المسد : ٣] على فتح الهاء، وكذا قوله : وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات : ٣١] وذلك يدل على أن الفتح أوجه من الإسكان، وقال غيره : إنما اتفقوا على الفتح في الثانية مراعاة لوفاق الفواصل.
[سورة المسد (١١١) : آية ٢]
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما في قوله : ما أَغْنى يحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الإنكار، ويحتمل أن يكون نفيا، وعلى التقدير الأول يكون المعنى أي تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه، فإنه لا أحد أكثر مالا من قارون فهل دفع الموت عنه «١»، ولا أعظم ملكا من سليمان فهل دفع الموت عنه، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك إخبارا بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك.
المسألة الثانية :(ما كسب) مرفوع وما موصولة أو مصدرية يعني مكسوبه أو كسبه،
يروى أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وأولادي، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية،
ثم ذكروا في

(١) المناسب هنا أن يقول فهل الخسف عثة، للذي تنص عليه الآية الكريمة فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص : ٨١].


الصفحة التالية
Icon