مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٦٥
كالمولود من العقول التي فوقه، فالحق سبحانه وتعالى نفى الوالدية أولا، كأنه قيل : إنه لم يلد العقول والنفوس، ثم قال : والشيء الذي هو مدبر أجسادكم وأرواحكم وعالمكم هذا ليس مولودا من شيء آخر، فلا والد ولا مولود ولا مؤثر إلا الواحد الذي هو الحق سبحانه.
[سورة الإخلاص (١١٢) : آية ٤]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)
فيه سؤالان :
السؤال الأول : الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في «كتابه»، فما باله ورد مقدما في أفصح الكلام؟ والجواب : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات اللّه، واللفظ الدال على هذا المعنى هو هذا الظرف، وتقديم الأهم أولى، فلهذا السبب كان هذا الظرف مستحقا للتقديم.
السؤال الثاني : كيف القراءة في هذه الآية؟ الجواب : قرئ : كُفُواً بضم الكاف والفاء وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء، والأصل هو الضم ثم يخفف مثل طنب وطنب وعنق وعنق، وقال أبو عبيدة : يقال كفو وكفء وكفاء كله بمعنى واحد وهو المثل، وللمفسرين فيه أقاويل أحدها : قال كعب وعطاء : لم يكن له مثل ولا عديل، ومنه المكافأة في الجزاء لأنه / يعطيه ما يساوي ما أعطاه وثانيها : قال مجاهد : لم يكن [له ] صاحبة كأنه سبحانه وتعالى قال : لم يكن أحد كفؤا له فيصاهره، ردا على من حكى اللّه عنه قوله : وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات : ١٥٨] فتفسير هذه الآية كالتأكيد لقوله تعالى : لَمْ يَلِدْ وثالثها : وهو التحقيق أنه تعالى لما بين أنه هو المصمود إليه في قضاء الحوائج ونفي الوسائط من البين بقوله : لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ على ما بيناه، فحينئذ ختم السورة بأن شيئا من الموجودات يمتنع أن يكون مساويا له في شيء من صفات الجلال والعظمة، أما الوجود فلا مساواة فيه لأن وجوده من مقتضيات حقيقته فإن حقيقته غير قابلة للعدم من حيث هي هي، وأما سائر الحقائق، فإنها قابلة للعدم، وأما العلم فلا مساواة فيه لأن علمه ليس بضروري ولا باستدلالي ولا مستفاد من الحس ولا من الرؤية ولا يكون في معرض الغلط والزلل وعلوم المحدثات كذلك، وأما القدرة فلا مساواة فيها وكذا الرحمة والجود والعدل والفضل والإحسان. واعلم أن هذه السورة أربع آيات، وفي ترتيبها أنواع من الفوائد :
الفائدة الأولى : أن أول السورة يدل على أنه سبحانه واحد، والصمد على أنه كريم رحيم لأنه لا يصمد إليه حتى يكون محسنا و : لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ على أنه غني على الإطلاق ومنزه عن التغيرات فلا يبخل بشيء أصلا، ولا يكون جوده لأجل جر نفع أو دفع ضر، بل بمحض الإحسان وقوله : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ إشارة إلى نفي ما لا يجوز عليه من الصفات.
الفائدة الثانية : نفى اللّه تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله : أَحَدٌ ونفى النقص والمغلوبية بلفظ الصمد، ونفى المعلولية والعلية بلم يلد ولم يولد، ونفى الأضداد والأنداد بقوله : وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
الفائدة الثالثة : قوله : أَحَدٌ يبطل مذهب الثنوية القائلين بالنور والظلمة، والنصارى في التثليث، والصابئين في الأفلاك والنجوم، والآية الثانية تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى اللّه لأنه لو وجد خالق آخر لما


الصفحة التالية
Icon