مفاتيح الغيب، ج ٧، ص : ١٣٥
إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن، والتأليف الأكمل، وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون، ويدل على كونه عالماً من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم، فكان قوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ دالًا على كونه قادراً على كل الممكنات، ودالًا على صحة ما تقدم من قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وقادرطلب وقت قيام الساعة، كما في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف : ١٧٨] وأيضاً طلب مقادير الثواب والعقاب، وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الحجر : ٧].
قلنا : إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه، ودلّ العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم، وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه، ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركا للظاهر، وأنه لا يجوز.
الحجة الثالثة : أن اللّه مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به، وقال في أول سورة البقرة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح، لأن كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به، إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن اللّه تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام اللّه تعالى، وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا سمعوا آية ودلّت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد اللّه تعالى، بل مراده منه غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه، وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب، فهؤلاء هم الراسخون في العلم باللّه حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر، ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان باللّه والجزم بصحة القرآن.
الحجة الرابعة : لو كان قوله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ معطوفاً على قوله إِلَّا اللَّهُ لصار قوله يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ابتداء، وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة، بل كان الأولى أن يقال : وهم يقولون آمنا به، أو يقال : ويقولون آمنا به.
فإن قيل : في تصحيحه وجهان الأول : أن قوله يَقُولُونَ كلام مبتدأ، والتقدير : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني : أن يكون يَقُولُونَ حالا من الراسخين.


الصفحة التالية
Icon