مفاتيح الغيب، ج ٧، ص : ١٤٨
العقلية، ويتوسلون بها إلى معرفة ذات اللّه تعالى وصفاته وأفعاله، ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول، وتوافق اللغة والإعراب.
واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس، فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفاً بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم اللّه الثناء عليه، ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحراً في علم الأصول، وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن اللّه، ولهذا
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم :«من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
واعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين أنهم يقولون آمنا به حكى عنهم أنهم يقولون : رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا وحذف (يقولون) لدلالة الأول عليه، وكما في قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران : ١٩١] وفي هذه الآية اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة.
أما كلام أهل السنة فظاهر، وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان، وصالح لأن يميل إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها اللّه تعالى، فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والطبع، والرين، والقسوة، والوقر، والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي : التوفيق، والرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول :«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن»
والمراد من هذين الإصبعين الداعيتان، فكما أن الشيء الذي يكون بين إصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الإصبعين، فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين، ومن أنصف ولم يتعسف، وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس، ولو جوّز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان صلى اللّه عليه وسلم يقول :«يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك»
ومعناه ما ذكرنا / فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل اللّه تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق، فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني.
ومما يؤكد ما ذكرناه أن اللّه تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات، بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال، وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات، ثم إن اللّه تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك، وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات، وهذا كلام متين.
وأما المعتزلة فقد قالوا : لما دلّت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل اللّه تعالى، وجب صرف هذه الآية إلى التأويل، فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى : سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة : ٦].
ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى : فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف : ٥] وهو صريح


الصفحة التالية
Icon