مفاتيح الغيب، ج ٧، ص : ١٦٦
عندهم، والقبيح هو الذي يلزم من فعله، إما الجهل، وإما الحاجة فهما محالان، ومستلزم المحال محال، فإدخال اللّه تعالى إياهم النار محال، وما كان محال الوقوع عقلًا كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله اللّه عبثاً وقبيحاً، ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ [آل عمران : ١٩٣].
فإن قيل : أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ [آل عمران : ١٧].
قلنا : تأويل هذه الآية ما ذكرناه، وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة، ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى، فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٧]
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الصَّابِرِينَ قيل نصب على المدح بتقدير : أعني الصابرين، وقيل : الصابرين في موضع جر على البدل من الذين.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا صفات خمسة :
الصفة الأولى : كونهم صابرين، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن اللّه تعالى، كما قال : الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة : ١٥٦] قال سفيان بن عيينة في قوله وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة : ٢٤] إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من اللّه تعالى بسبب الصبر، ويروى أنه وقف رجل على الشلبي، فقال : أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال الصبر في اللّه تعالى، فقال لا، فقال : الصبر للّه تعالى فقال لا فقال :
الصبر مع اللّه تعالى، قال لا قال فأيش؟ قال : الصبر عن اللّه تعالى، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.
وقد كثر مدح اللّه تعالى للصابرين، فقال : وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة :
١٧٧].
الصفة الثانية : كونهم صادقين، اعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنيّة، فالصدق في القول مشهور، وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه، يقال : صدق فلان في القتال وصدق في الحملة، ويقال في ضده : كذب في القتال، وكذب في الحملة، والصدق في النيّة إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل.


الصفحة التالية
Icon