مفاتيح الغيب، ج ٧، ص : ١٦٩
الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
[الأحزاب : ٥٦] ومعلوم أن الصلاة من اللّه غير الصلاة من الملائكة، ومن الملائكة غير الصلاة من الناس، مع أنه قد جمعهم في اللفظ.
فإن قيل : المدعي للوحدانية هو اللّه، فكيف يكون المدعي شاهدا؟
الجواب : من وجوه الأول : وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا اللّه، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة، ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل، ولولا تلك الدلائل التي نصبها اللّه تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد، وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا اللّه وحده، ولهذا قال : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام : ١٩].
الوجه الثاني : في الجواب أنه هو الموجود أزلا وأبدا، وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدما صرفا، ونفيا محضا، والعدم يشبه الغائب، والموجود يشبه الحاضر، فكل ما سواه فقد كان غائبا، وبشهادة الحق صار شاهدا، فكان الحق شاهدا عل الكل، فلهذا قال : شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
الوجه الثالث : أن هذا وإن كان في صورة الشهادة، إلا أنه في معنى الإقرار، لأنه لما أخبر أنه لا إله سواه، كان الكل عبيدا له، والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد، فكان هذا الكلام جاريا مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق.
الوجه الرابع : في الجواب قرأ ابن عباس شهد الله انه لا إله إلا هو بكسر (إنه) ثم قرأ أن الدين عند الله الإسلام [آل عمران : ١٩] بفتح (أن) فعلى هذا يكون المعنى : شهد اللّه أن الدين عند اللّه الإسلام ويكون قوله أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراضا في الكلام، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه، أن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء، وبتقدير (أن) تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها، فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى.
المسألة الثانية : المراد من أولي العلم في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار مقرونا بالعلم، ولذلك
قال صلى اللّه عليه وسلم :«إذا علمت مثل الشمس فاشهد»
وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا العلماء الأصول.
أما قوله تعالى : قائِماً بِالْقِسْطِ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قائِماً بِالْقِسْطِ منتصب، وفيه وجوه :
الوجه الأول : نصب على الحال، ثم فيه وجوه أحدها : التقدير : شهد اللّه قائما بالقسط وثانيها : يجوز أن يكون حالا من هو تقديره : لا إله إلا هو قائما بالقسط، ويسمى هذا حالا مؤكدة كقولك : أتانا عبد اللّه شجاعا، وكقولك : لا رجل إلا عبد اللّه شجاعا.
الوجه الثاني : أن يكون صفة المنفي، كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلا هو، وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف.


الصفحة التالية
Icon