مفاتيح الغيب، ج ٧، ص : ١٧٤
الطريق الثاني : وهو أن نقول : إن قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ محاجة، وإظهار للدليل، وبيانه من وجوه :
الوجه الأول : أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع، وكونه مستحقا للعبادة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الإثبات، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طاعة اللّه تعالى وعبوديته، وهذا القدر متفق عليه، ونظيره هذه الآية قوله تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران : ٦٤].
والوجه الثاني : في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات اللّه وسلامه عليه، والإقرار بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام، فأمر اللّه تعالى محمداً صلى اللّه عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال : ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل : ١٢٣] ثم إنه تعالى أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم حيث قال : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام : ٧٩] فقول محمد صلى اللّه عليه وسلم : أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ كقول إبراهيم عليه السلام وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي اعترضت عن كل معبود سوى اللّه تعالى، وقصدته بالعبادة وأخلصت له، فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة، بعيدة عن كل شبهة وتهمة، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات، وداخلا تحت قوله وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل : ١٢٥].
والوجه الثالث : في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند اللّه الإسلام لا غير، ثم قال : فَإِنْ حَاجُّوكَ يعني فإن نازعوك في قولك إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران : ١٩] فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي للّه، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية، فإذا أسلمت وجهي للّه فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته، ولا أشرك به غيره، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام، وهذا الوجه يناسب الآية.
الوجه الرابع : في كيفية الاستدلال، ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مريم : ٤٢] يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا ضارا، ويكون أمري في يديه، وحكمي في قبضة قدرته، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادرا على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له، وأن انقاد له، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير، والشر، والنفع، والضر، والتدبير، والتقدير.
الوجه الخامس : يحتمل أيضا أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة : ١٣١] وهذا مروي عن ابن عباس.
أما قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ففيه وجوه الأول : قال الفرّاء أسلمت وجهي للّه، أي أخلصت عملي للّه


الصفحة التالية
Icon