مفاتيح الغيب، ج ٩، ص : ٤٨٢
ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال : إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك. ومن هذا صفته فانه يجب أن يخاف ويرجى، فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفي، وانه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك.
[سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
[في قوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ] اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف اللّه سبحانه، محترزا عن مساخطه، شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف.
فالنوع الأول : ما يتعلق بأموال اليتامى، وهو هذه الآية، وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام، فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام، لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الإشفاق عليهم، ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال : وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» : اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم، واليتم الانفراد، ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة، وقيل : اليتم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات. قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء، إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال، فإذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره، زال عنه هذا الاسم، وكانت قريش تقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يتيم أبي طالب، إما على القياس، وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له. وأما
قوله عليه الصلاة والسلام :«لا يتم بعد حلم»
فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة، يعني إذا احتلم فانه لا تجرى عليه أحكام الصغار. وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب اليه : إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه، وفي بعض الروايات : أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد، ثم قال أبو بكر : واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها،
قال النبي صلى اللّه عليه وسلم :«تستأمر اليتيمة»
وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة، قال الشاعر :
ان القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى
فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير، إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير.
المسألة الثانية : هاهنا سؤال وهو أن يقال : كيف جمع اليتيم على يتامى؟ واليتيم فعيل، والفعيل يجمع على فعلى، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى، قال صاحب «الكشاف» : فيه وجهان : أحدهما : أن يقال : جمع اليتيم يتمى، ثم يجمع فعلى على فعالي، كأسير وأسرى وأسارى، والثاني : أن يقال : جمع يتيم يتائم، لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس، ثم يقلب / اليتائم يتامى. قال القفال رحمه اللّه :
ويجوز يتيم ويتامى، كنديم وندامى، ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف.
المسألة الثالثة : هاهنا سؤال ثان : وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير، فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله اليه، وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما، فكيف قال : وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ


الصفحة التالية
Icon