مفاتيح الغيب، ج ٩، ص : ٤٩٦
سورة البقرة أن السفه خفة العقل، ولذلك سمي الفاسق سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم، ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله.
المسألة الثالثة : أنه ليس السفه في هؤلاء صفة ذم، ولا يفيد معنى العصيان للّه تعالى، وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الأموال.
المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال، قال تعالى : وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء : ٢٦، ٢٧] وقال تعالى : وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً [الإسراء : ٢٩] وقال تعالى : وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان : ٦٧] وقد رغب اللّه في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن، والعقل أيضاً يؤيد ذلك، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار، فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة، أما / من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة.
المسألة الخامسة : قوله تعالى : الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال، فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة، يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم، وقرأ نافع وابن عامر التي جعل اللّه لكم قيما وقد يقال : هذا قيم وقيم، كما قال : دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الأنعام : ١٦١] وقرأ عبد اللّه بن عمر (قواماً) بالواو، وقوام الشيء ما يقام به كقولك : ملاك الأمر لما يملك به.
المسألة السادسة : قال الشافعي رحمه اللّه : البالغ إذا كان مبذراً للمال مفسداً له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه : لا يحجر عليه. حجة الشافعي : أنه سفيه، فوجب أن يحجر عليه، إنما قلنا إنه سفيه، لأن السفيه في اللغة، هو من خف وزنه. ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسداً له من غير فائدة، فانه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء، فكان خفيف الوزن عندهم، فوجب أن يسمى بالسفيه، وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى : وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.
ثم قال تعالى : وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
واعلم أنه تعالى لما نهى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء : أولها : قوله : وَارْزُقُوهُمْ ومعناه : وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الإجراء الموظف لوقت معلوم يقال : فلان رزق عياله أي أجرى عليهم، وإنما قال : فِيها ولم يقل : منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال، وثانيها : قوله : وَاكْسُوهُمْ والمراد ظاهر، وثالثها : قوله : وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً.
واعلم انه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه، أما خلاف القول المعروف فانه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا.
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها. أحدها : قال ابن جريج ومجاهد : انه العدة الجميلة من البر والصلة، وقال ابن عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما أنت أهله، وان


الصفحة التالية
Icon