مفاتيح الغيب، ج ٩، ص : ٥٠٩
وأما أسباب التوارث في الإسلام، فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني، وزاد فيه أمرين آخرين : أحدهما : الهجرة، فكان المهاجر يرث من المهاجر. وان كان أجنبيا عنه، إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة، ولا يرثه غير المهاجر، وإن كان من أقاربه. والثاني : المؤاخاة، كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم، وكان ذلك سببا للتوارث، ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأحزاب : ٦] والذي تقرر عليه دين الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة : النسب، والنكاح، والولاء.
المسألة الثانية : روى عطاء قال : استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا، فأخذ / الأخ المال كله، فأتت المرأة وقالت يا رسول اللّه هاتان ابنتا سعد، وإن سعدا قتل وان عمهما أخذ مالهما،
فقال عليه الصلاة والسلام :«ارجعي فلعل اللّه سيقضي فيه» ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمهما وقال :«أعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن وما بقي فهو لك،
فهذا أول ميراث قسم في الإسلام.
المسألة الثالثة : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان : الأول : أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام، وما على الأولياء فيه، بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالإرث، ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث، الثاني : أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالإجمال في قوله : لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء : ٧] فذكر عقيب ذلك المجمل، هذا المفصل فقال : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
المسألة الرابعة : قال القفال : قوله : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي يقول اللّه لكم قولا يوصلكم إلى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم، وأصل الإيصاء هو الإيصال يقال : وصى يصي إذا وصل، وأوصى يوصي إذا أوصل، فإذا قيل : أوصاني فمعناه أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه، وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج : معنى قوله هاهنا : يُوصِيكُمُ أي يفرض عليكم، لأن الوصية من اللّه إيجاب والدليل عليه قوله : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ولا شك في كون ذلك واجبا علينا.
فان قيل : انه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال هاهنا : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
قلنا : لما كانت الوصية قولا، لا جرم ذكر بعد قوله : يُوصِيكُمُ اللَّهُ خبرا مستأنفا وقال : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ونظيره قوله تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح :
٢٩] أي قال اللّه : لهم مغفرة لأن الوعد قول.
المسألة الخامسة : اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ولذلك
قال عليه الصلاة والسلام :«فاطمة بضعة مني»

فلهذا السبب قدم اللّه ذكر ميراثهم.
واعلم أن للأولاد حال انفراد، وحال اجتماع مع الوالدين : أما حال الانفراد فثلاثة، وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والإناث معا، وإما أن يخلف الإناث فقط، أو الذكور فقط.
القسم الأول : ما إذا خلف الذكران والإناث معا، وقد بين اللّه الحكم فيه بقوله : لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.


الصفحة التالية
Icon