مفاتيح الغيب، ج ٩، ص : ٥١٩
أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين واللّه أعلم.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما معنى «أو» هاهنا وهلا قيل : من بعد وصية يوصى بها او دين، والجواب من وجهين : الأول : أن «أو» معناها الاباحة كما لو قال قائل : جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس، فان جالست الحسن فأنت مصيب، أو ابن سيرين فأنت مصيب، وإن جمعتهما فأنت مصيب، أما لو قال : جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر، فكذا هاهنا لو قال : من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران، ومعلوم أنه ليس كذلك، أما إذا ذكره بلفظ «أو» كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما. الثاني : أن كلمة «أو» إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله : وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان : ٢٤] وقوله : حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام : ١٤٦] فكانت «أو» هاهنا بمعنى الواو، فكذا قوله تعالى : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا.
المسألة الرابعة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يوصى بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله.
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى : مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ.
قوله تعالى : آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله : فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ومن حق / الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه، فنقول : إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد وأنصباء الأبوين، وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات، والإنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه، وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء، وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء، فاللّه تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال : إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة، وأما الإله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، فكأنه قيل : أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم، وكونوا مطيعين لأمر اللّه في هذه التقديرات التي قدرها لكم، فقوله : آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً اشارة إلى ترك ما يميل اليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة، وقوله :
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ اشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها، وذكروا في المراد من قوله : أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وجوها : الأول : المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة، قال ابن عباس : إن اللّه ليشفع بعضهم في بعض، فأطوعكم للّه عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة، وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع اللّه اليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع اللّه إليه والديه، فقال : لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك.
الثاني : المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الانفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث : المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد.


الصفحة التالية
Icon