مفاتيح الغيب، ج ٩، ص : ٥٢٨
أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء : ٥] وقال في هذه : اللاتي واللائي، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد، وأما جمع الحيوان فليس كذلك، بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات، فهذا هو الفرق، ومن العرب من يسوي بين البابين، فيقول : ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا، والأول هو المختار.
المسألة الثانية : قوله : يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي يفعلنها يقال : أتيت أمرا قبيحا، أي فعلته قال تعالى : لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا [مريم : ٢٧] وقال : لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا [مريم : ٨٩] وفي التعبير عن الاقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة، وهي أن اللّه تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي، فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها، بل المكلف كأنه ذهب إليها من عند نفسه، واختارها بمجرد طبعه، فلهذه الفائدة يقال : إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب إليها، إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة. وفي قراءة ابن مسعود : يأتين بالفاحشة، وأما الفاحشة فهي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال : فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة، وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل. وأجمعوا على أن الفاحشة هاهنا الزنا، وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
فان قيل : الكفر أقبح منه، وقتل النفس أقبح منه، ولا يسمى ذلك فاحشة.
قلنا : السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الإنسان ثلاثة : القوة الناطقة، والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما، وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما، وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها، وأخس هذه القوى الثلاثة : القوة الشهوانية، فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد، فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة واللّه أعلم بمراده.
المسألة الثالثة : في المراد بقوله : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ قولان : الأول : المراد / منه الزنا، وذلك لأن المرأة إذا نسبت إلى الزنا فلا سبيل لأحد عليها إلا بأن يشهد أربعة رجال مسلمون على أنها ارتكبت الزنا، فإذا شهدوا عليها أمسكت في بيت محبوسة إلى أن تموت أو يجعل اللّه لهن سبيلا، وهذا قول جمهور المفسرين.
والقول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني : أن المراد بقوله : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ السحاقات، وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله : وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النساء : ١٦] أهل اللواط، وحدهما الأذى بالقول والفعل، والمراد بالآية المذكورة في سورة النور : الزنا بين الرجل والمرأة، وحده في البكر الجلد، وفي المحصن الرجم، واحتج ابو مسلم عليه بوجوه : الأول : أن قوله : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ مخصوص بالنسوان، وقوله : وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ مخصوص بالرجال، لأن قوله : وَالَّذانِ تثنية الذكور.
فان قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : وَالَّذانِ الذكر والأنثى إلا أنه غلب لفظ المذكر.
قلنا : لو كان كذلك لما أفرد ذكر النساء من قبل، فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعد قوله : وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ سقط هذا الاحتمال. الثاني : هو أن على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات، بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقررا، وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ، فكان هذا القول أولى. والثالث : أن على الوجه الذي ذكرتم يكون قوله : وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ في الزنا وقوله : وَالَّذانِ


الصفحة التالية
Icon