ج١ص١٩٤
السؤال بوجهين الأوّل أنّ الهداية بمعنى مطلق الدلالة والإرشاد، وان عمت جميع الناس كما صرّح به في قوله تعالى :﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ٨٥ ا ] لكن غيرهم لما لم ينتفع بها كانت هدايتهم كالعدم، فلذا أضرب عنهم صفحا لتنزيلهم منزلة الجماد.
وأعلم أنّ الهداية على مراتب أربعة مرّت في الفاتحة، والتقوى أيضا على مراتب ثلاثة توقي الشرك، وتجنب المعاصي، واجتناب ما عاق عن الحق، وإذا ضربت أنواع الهداية في التقوى فهي اثنا عشر إلا أنّ الهداية بالمعنى الأوّل لا دخل للكتاب فيها، والرابعة وان كانت
تتصوّر فيه لو أريدت، فالمراد بالمتقين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو صحيح ويراد حينئذ من التقوى المرتبة الثالثة، لكنه غير مناسب ومنه يعلم أنّ التقوى بالمعنى الثالث غير مرادة، فبقي من الهداية قسمان نصب مطلق الدلائل، أو السمعي منها وهما يحصلان بالقرآن ومن الهداية قسمان تجنب الشرك وتجنب الآثام، فالصور الباقية أربع، وكلام المصنف رحمه الله في هذا الوجه محتمل لها والمعنى لا ينتفع بالدلائل مطلقاً، أو الدلائل القرآنية إلا المسلمون، أو إلا المجتنبون للمعاصي لعلمهم بما ظهر منها، والأولى أوفق بكلامه، ولا مجاز في النظم على هذا كما توهم. قوله :( بنصبه ) قيل هو بضمتين كل ما جعل علامة كما في القاموس، وليس جمعاً هنا وان كان في غير هذا المحل يكون جمعاً لنصاب بمعنى الأصل، وقيل : إنه بفتح النون وسكون الصاد المهملة والباء الموحدة مصدر والمعنى نصب الله تعالى إياه دليلاَ على ذلك لهم دون غيرهم، وفي بعض النسخ بنصه على أنه واحد النصوص، وعليه اقصر بعض أرباب الحواشي، وقال في تفسيره : أي بنص من نصوصه وآية من آياته وليس هذا بتحريف كما قيل، فإنه أقرب مما فالوه نعم هو المناسب للمقام كما سيأتي، وهو الحامل للقائل على ادعاء تحريفه قيل : وهنا نكتة لأنه يؤخذ من قوله ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ وقوله :﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] أنّ المتقين هم الناس كما قال :
وما الناس إلا أنتمو لا سواكمو
( وههنا بحث ) وهو أنه إذا حكم على الوصف بضده وما يقتضي زوال معناه سواء كان
ذلك حمليا كبلغ اليتيم، أو شرطيا كأعط اليتيم ما له إذا بلغ وإذا شفي المريض عرف قيمة العافية، فالوصف ليس متصفاً بمعناه حال تعفق ذلك الحكم به، فهل هو حقيقة أو مجاز، والظاهر أنه حقيقة إمّا لأن اتصافه بمعناه لما لاصق الاتصاف بضده، وقرب منه كان زمانهما في حكم زمان واحد، فيراد اتصافه في زمان الحكم حقيقة أو حكماً، أو لأنه يعتبر الزمانان المتلاصقان زماناً واحداً ممتداً تصف بهما على التعاقب فيه فالحقيقة بالنظر إلى أوّله، والحكم ناظر إلى جزئه الأخير، والظاهر أنّ هذا لا محيد عنه، كما سيأتي في أوّل سورة النساء في ﴿ آتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ﴾ [ النساء : ٢ ] حيث جعله المصنف رحمه الله حقيقة بالنظر إلى أصل اللغة، أو بتقدير إذا بلغوا وهو لا يخالف ما في التلويح كما قيل لأنّ كلام المصنف مبنيّ على تقدير الشرط بقرينة الآية الأخرى ﴿ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا ﴾ [ النساء : ٦، وما في التلويح مبنيّ على إرادة معنى ذلك من غير تصمريح، ولا تقدير. وقوله :( وإن كانت دلالته عامة ) أي على المختار عنده، وكذا قوله وبهذا الإعتبار، فلا منافاة بين قوله هنا ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ وقوله في أخرى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ [ البقرة : ٨٥ ا ] فلا حاجة لتخصيص الناس فيه. قوله :( أو لآنه لا ينتفع بالتأمّل فيه إلخ ) التأمّل
بمعنى التدبر والتفكر كما في كتب اللغة يقال : تأمّلته إذا تدبرته، وفي المصباح هو إعادتك النظر فيه مرة بعد أخرى حتى تعرفه اهـ. فكان معرفته مما تؤمله وترجوه، وصقل بالتخفيف بمعنى جلا من صقل السيف والمرآة، وقد يكون في غيره كالثوب والورق فشبه العقل بالمرآة وجعل النظر والفكر مرارا بمنزلة صقله وهو ظاهر، وضمير لأنه راجع للكتاب والتأمّل النظر الصحيح في معانيه فإنه دليل إذ به الإرشاد، ويمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب، واستعمله بمعنى أعمله فيما ذكر والضمير للعقل. وقوله ة ( في تدبر الآيات ) التدبر أصله النظر في أدبار الأمور وعواقبها، والآيات هنا العلامات، والأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدانيته، واتصافه بصفات الكمال، وتنزهه عن سمات النقصان كما قال :
وفي كل شيء له آية ~ تدل على أنه الواحد
ولا يصح حملها هنا على آيات القرآن لمن تدبر. وقوله :( والنظر في المعجزات ) أي معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلم وتعرّف النبوّات بالأدلة الدالة على ثبوتها، وثبوت ما لا بد منه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليصدق به، وثبوته