ج١ص٢٣٦
يؤمنون بالفعل بالسالف إذ الإيمان بالمترقب إنما يكون عند تحققه، وإن أريد الإيمان بأنّ كل ما نزل، فهو حق فهذا حاصل الآن من غير حاجة إلى اعتبار تحقق نزوله، وأجاب بأنه لما وجب ذلك وجب في مقام الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به أن يتعرّض لذلك سيما، ولفظ يؤمنون المضارع منبىء عن الاستمرار بلا اقتصار على المضيّ وهذا ظاهر إن أريد بالذين يؤمنون مطلق المؤمنين، فإن أريد مؤمنو أهل الكتاب فلا يخلو عن تكلف، وكأنّ وجه التكلف أنّ من آمن منهم الآن لا يعرف ما نزل، حتى يتحقق عنده ويجب عليه الإيمان به تعيينا، وقد خفي وجهه على الناظرين فوجهوه بما هو أشد تكلفاً منه، وكانوا فيه كمن فرّ من السحاب، فوقف تحت الميزان ققيل إنّ وجهه أنّ إيمان أهل الكتاب بالسالف قد تحقق من قبل، فلا يظهر فيه الاستمرار وعدم المضيّ وقيل وجهه أنّ بعض المؤمنين من أهل الكتاب لم يدرك جميع القرآن بل بعضه فلا يحسن أن يحكم بانهم مؤمنون على الاستمرار التجددي بحسب تجدّد المنزل عليه، وفيه أنّ مطلقهم يدركه كمطلق المؤمنين على الإطلاق، وإن اعتبر الاستغراق لم يصح ذلك في الفريقين وقيل : إنه لا تتمشى حينئذ المقدمة الخطابية، لأن تمدحهم بجمعهم بين الكتابين في الإيمان بكل واحد على الخصوص بخلاف سائر المؤمنين، فلا تروج هذه المقدّمة، ولا يخفى ضعفه لمن له أدنى تأمّل، وفي الكشف فإن قلت : فهلا قيل ينزل ليطابق يؤمنون. قلت : لمطابقة ما أنزل من قبلك وللتنبيه على أنّ المترقب كائن لا محالة ولأنّ إيمانهم يتعلق بشيء قد أنزل بعضه، وسينزل باقيه فلو قيل بما ينزل لم يشمل الماضي، وفسد المعنى، ولو ذكر الم يطابق البلاغة القرآنية واختصاراتها.
( أقول ) هذا زبدة ما ذكره القوم، وفيه أنّ التغليب باب واحد وما دفع به الشبهة لا يتأتى
في مثل قولهم حكم العمران وضي الله عنهما بكذا، فإنّ المقصود الإسناد إلى كل منهما استقلالاً لا إلى المجموع من حيث هو حتى يكون كل منهما جزءا ملحوظا على وجه الإجمال، وأمّا الجواب عنه بأنّ التجوّز في مثله في الفرد وليس في إطلاقه استقلال، وإنما الاستقلال والتفصيل مستفاد من التثنية فلا يصح فإنه لو كان التجوّز في عمر فإن قيل إنه تجوز به عن الشيخين فلا يخفى بعده، وإن قيل تجوز به عن أبي بكر يكون كتثنية العينين للباصرة
والذهبية، ومثله ليس من باب التغليب وادّعاء أنه بمعنى صدر الخلفاء من غير اعتبار تفصيل فيه مع ركاكته أقرب من هذا على أنهم كما في التلويح وغيره، اشترطوا في إطلاق اسم الجزء على الكل أن يكون التركيب حقيقياً له اسم على حدة وأن يكون الكل يعدم بعدم ذلك الجزء حقيقة، أو ادعاء كالرأس للإنسان والعين للربيئة، وهذا ليس كذلك مع أنه لم يعهد تشبيه الجزء بالكل، لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه وهو كما قيل :
وشاعر أوقد الطبع الذكي له ~ وشبه الماء بعد الجهد بالماء
واستعارة الهيئة دون المادّة الذي أشار إليه بقوله بلا اعتبار لمادّته في الاستعارة التبعية فيه
كلام في حواشي المطوّل، وفي كلام الكشف إشارة إلى أنه يجوز أن يجعل من المشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق وان ذكره بعضهم على أنه من بنات أفكاره إلاً أنه لا يصفو من الكدر، ولو قيل : إنّ المراد به الماضي حقيقة، ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص كان أحسن من هذا كله. قوله :( ونظيره قوله إلخ ) عدل عن قوله في الكشاف، ويدل عليه قوله ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا ﴾ إلخ فجعله دليلاَ لما ذكر من وجهي التعبير بصيغة المضيّ، لأن إرادة مجموع الكتاب متبادرة عند الإطلاق خصوصا، وقد قيد بكونه منزلاً من بعد موسى ﷺ لا بعضه، ولا القدر المشترك بينه وبين كله، وهو عبر عن إنزاله بلفظ المضيّ مع أنّ بعضه كان حينئذ مترقباً فوجب تأويله بأحد هذين التأويلين، وأما سمعنا ففيه تغليب للمسموع على غيره مما لم يسمع قي إيقاع السماع على أنّ الكتاب المراد به الكل مع أنه لم يسمع إلاً بعضه، وإنما عدل المصنف رحمه الله عما في الكشاف من جعل هذه الآية دليلاً إلى جعلها نظيراً لأنه لا فرق بينهما في احتياج كل منهما إلى التأويل بل هذه أحوج له، ولذا قال الفاضل في شرحه في قوله تعالى ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ ﴾ [ الأحقاف : ٣٠ ] الآية إشكال قويّ، فإنّ السماع لم يتعلق إلاً بما تحقق إنزاله بالحقيقة، فكيف يكون سبيله سبيل ما ذكر في جعله غير المتحقق بمنزلة المتحقق غاية الأمر أنّ الكتاب اسم للمجموع فيجب أن يراد به البعض، أو يحمل على المفهوم الكلي الصادق على الكل والبعض، فوجب التأويل في هذه الآية أيضا، ولم يمثل للتغليب بأنا، وأنت فعلنا لما