ج٤ص٢٨٩
الفعل حتى يكون اسم فعل كما قيل، وقوله نزلت بالبيداء أي في الصحراء في سفره عحلى والقرآن منه سفرقي وحضرفي، وهل هو مكي أو مدنيّ أو واسطة الكلام فيه مشهور، وعلى القول بأنها نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه تكون هذه الآية وحدها مكية فإنه قد يكون في السور المدنية آيات مكية ويكون في قوله في أوّل السورة مدنية تغليبا فإن كان المراد بمن اتبعك هو فمن تبعيضية، وعلى غيره هي بيانية، وقد جوّز فيه أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي كذلك أو خبر مبتدأ محذوف.
قوله :( بالغ في حثهم عليه الخ ) حرض بمعنى حض وحث فهو بمعنى الحث لا المبالغة
فيه والمبالغة ذكرها الزجاج إذ قال تأويل التحريض في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم منه أنه حارض أي مقارب للهلاك، وفي الدرّ المصون أنه مستبعد منه، وقد تبعه
الزمخشري والمصنف رحمه اللّه، وقال الراغب الحرض يقال لما أشرف على الهلاك والتحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين، وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو قذيته أزلت عنه القذى، وأحرضته أفسدته نحو أقذيته إذا جعلت فيه القذى، ومنه تعلم وجه المبالغة فيه ونهكه المرض بمعنى أضعفه وأضناه، ويشفي مضارع أشفى على كذا إذا أشرف عليه وقاربه، وقرئ حزص من الحرص المهملى وهو ظاهر. قوله تعالى : إلى ﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ ﴾ [ ٤ / ٢٩٠ ﴿ صابِرُونَ ﴾ الخ في البحر انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيداً في الجملة الأولى، وهو صابرون وحذف نظيره من الثانية، وأثبت قيداً في الثانية، وهو من الذين كفروا وحذفه من الأولى، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف، وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه، ثم ختم بقوله :﴿ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ مبالغة في شدة المطلوبية، ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاء بما قبله ( قلت ) هذا نوع من البديع يسمى الاحتباك، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما، وقوله والله مع الصابرين إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتما لأنّ من كان الله معه لا يغلب، وبقي فيها لطائف فلله درّ التنزيل ما أحلى ماء فصاحته، وأنضر رونق بلاغته. قوله :( شرط في معنى الأمر الخ ( أي هذه الجملة الخبرية لفظا إنشائية معنى لأن المراد ليصبرنّ الواحد لعشرة، ولذا وقع النسخ فيه لأن النسخ في الخبر فيه كلام في الأصول، وخالف الزمخشرقي إذ جعلها خبراً ووعدا لهم، فالظاهر أن يقول المصنف رحمه الله أو الوعد فإنه على الخبر كما صرّج به الشارح، وقال الإمام : الدليل على كونه بمعنى الأمر أنه لو كان خبر الزم أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين، وليس كذلك بدليل قوله : والله مع الصابرين، فإنه ترغيب على الثبات في الجهاد، وقيل عليه إنّ التعليق الشرطي يكفي فيه ترتيب الجزاء على الشرط في بعض الزمان لا في كله، ولولا ذلك لزم تحلف وعده بذلك لانتفاء الكلية، وقوله :﴿ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ لا يقتضي الإنشائية.
( وفيه بحث الأن تعليق الغلبة على الصبر وجعله سببا لها يقتضي وجودها كلما وجد، والترغيب في الشيء يقتضي أنه قد يتخلف عنه ولذا ركب فيه وهذا أمر خطابي يكتفي فيه بمثله، ثم أن العلامة قال في الآية إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار، وهي أمران أحدهما جهلهم بالمعاد حتى يقاتلون من غير احتساب كالبهائم بخلاف المؤمنين فإنهم يؤمنون بالمعاد فيقدمون على الجهاد على بصيرة طلبا للثواب، ويقاتلون بعزم صحيح وقلب قويّ، فلذا كفي القليل منهم الكثير، والثاني جهلهم بالمبدأ فيعولون على شوكتهم وقوّتهم، والمؤمنون يستعينون بالله فيستوجبون نصرته فيغلبونهم لا محالة، فأشار إلى الأوّل بقوله يقاتلون على غير احتساب، والى الثاني بقوله ويعزمون باللّه اهـ. وقد أشار المصنف رحمه الله إلى
جهلهم بالمبدأ بقوله جهلة بالله، وبالمعاد بقوله وباليوم الآخر فلا وجه لما قيل أنّ المصنف رحمه الله اكتفى بذكر المعاد لاستلزامه للمبدأ، وترك قوله في الكشاف كالبهائم وهو في غاية الحسن فإنّ الجزار لا يضره كثرة الغنم، وقوله بعون الله وتأييده هو معنى قوله بإذن الله إشارة إلى أنّ الأوّل مقيد به أيضا كما مرّ، وقوله تكن بالتاء في الآيتين اعتبار التأنيث اللفظي والبصريان أبو عمرو ويعقوب قرآ فإن تكن في الآية الثانية بالتأنيث لقوّته بالوصف المؤنث بقوله صابرة، وإما أن يكن منكم عشرون فبالتذكير عند الجميع إلا في قراءة شاذة عن الأعرج، فقول المصنف رحمه الله وان تكن سهو في التلاوة لأنّ أبا عمرو قرأها في قوله :﴿ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ ﴾ بالفاء. قوله :( بسبب إنهم جهلة باللّه الخ ( فقه بمعنى فهم وعلم، والمعنى أنهم لا يعتقدون أمور الآخرة فإنّ من اعتقدها وعلم أنه على الحق هان عليه الموت، كما قال عليّ كرم الله وجهه لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ، وقوله :( رجاء الثواب ) مفعول له علة لثبات المؤمنين، وقوله قتلوا أو قتلوا أي إن قتلوا رجوا ثواب الغزو، وان قتلوا رجوا منازل الشهداء وثوابهم، ولأنّ من أنكر الآخرة ولم يعلم إلا هذه الدار شح بنفسه غاية الشح فجبن، ومن علم انتقاله إلى أعلى منها هانت عليه نفسه وأحب لقاء الله، وقوله :( ولا يستحقون ) عطف على لا يثبتون أي لجهلهم بالله لا يثبتون، ولا يستحقون إلا الخذلان وعدم النصرة والظفر. قوله :( لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة الخ ) الجمهور على انّ هذه الآية ناسخة للتي قبلها، وذهب مكيّ إلى أنها مخففة لا ناسخة كتخفيف الفطر للمسافر، وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة فقتل هل يأثم أو لا، فعلى الأوّل يأثم، وعلى الثاني لا يأثم، وكلام المصنف رحمه الله محتمل لهما، وعلى النسخ نزول هذه الآية متراخ عن نزول الأولى، قال النحرير : تقييد التخفيف بقوله الآن ظاهر، وأما تقييد علم الله ففيه خفاء، وتوضيحه أنّ علم الله متعلق بقوله الآن، أما قبل وقوعه فبأنه سيقع، وحال الوقوع بأنه يقع، وبعد الوقوع بأنه وقع، وقال الطيبي رحمه الله : معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى أي كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوّتكم. قوله :( وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما كثروا خفف عنهم ) تغاير الوجهين بتغاير سبب التخفيف فإن قلت كيف يستقيم هذا مع قوله :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾ فإنّ التحويل من القلة إلى الكثرة يزيد القوّة لا الضعف، قلت لما كان موجب القوّة اعتمادهم على الله وتوكلهم عليه لا على الكثرة كما في بدر أوجب أن يقاوم واحد منهم عشرة، ولذا علل مقابله بقوله بأنهم لا يفقهون كما عرفت، ثم لما كثروا
اعتمدوا على كثرتهم بعض اعتماد كما في حنين فخفف الله عنهم بعض ذلك، وقال الإمام الكفار إنما يعوّلون على قوّتهم وشوكتهم، والمسلمون يستعينون بالدعاء والتضرّع، فلذا حق لهم النصر والظفر، وعن النصر أباذي أنّ هذا التخفيف كان للأمّة دون الرسول عشب!، وهو الذي يقول بك أصول وبك أجول، ومن كان كذا لا يثقل عليه شيء حتى يخفف. قوله :( وتكرير المعنى الواحد الخ ) أي وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأوّل، وثبات الواحد للاثنين في الثاني، فكفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف، وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين، ووجهه بأنه للدلالة على عدم تفاوت القلة والكثرة فإن العشرين قد لا تغلب المائتين، وتغلب المائة الألف وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم أكثر على الترتيب الطبيعي، فلا يرد عليه أنه لو عكس الترتيب في الآية لما كان لما ذكر وجه كما قيل. قوله :( بذكر الأعداد المتناسبة ) الأعداد المتناسبة عند الحساب والمهندسين هي التي يكون الأوّل منها للثاني، والثالث للرابع أضعافاً متساوية أو جزءاً أو أجزاء بعينها وهو المراد هنا. قوله :( والضعف ضعف البدن الخ ) يعني الضعف الطارئ عليهم بالكثرة الموجب للتخفيف عدم القوّة البدنية على الحرب لأنّ منهم الشيخ والعاجز ونحوه، فلو أوجب ذلك عليهم جميعا لم يتيسر لهم بخلافهم قبل ذلك، ف!نهم كانوا طائفة منحصرة معلومة قوّتهم وجلادتهم، أو المراد ضعف البصيرة والاستقامة وتفويض النصرة إلى الله فإن فيهم قوما حديث عهدهم بالإسلام ليسوا كذلك، وهذا مبني على أن الضعف بالفتح والضم بمعنى واحد فيكونان في الرأي والبدن، وقيل بينهما فرق فبالفتح في الرأي والعقل، وبالضم في البدن، وهو منقول عن الخليل بن أحمد رحمه الله وقد قرئ بهما وهو يؤيد كونهما بمعنى، وقرئ ضعفاء بصيغة الجمع، وقوله : بالنصر والمعونة يعني المراد بصحبته صحبة نصره وتأييده وإلا فهو معكم أينما كنتم. قوله :( ما كان لنبئ الخ ) التنكير قراءة الجمهور والتعريف قراءة أبي الدرداء رضي الله عنه، وأبي حيوة والمراد على كل حال نبينا ﷺ، وإنما نكر تلطفاً به ﷺ حتى لا يواجه بالعتاب، ولذا قيل إنه على تقدير مضاف أي أصحاب النبيّءتج!ه


الصفحة التالية
Icon