ج٥ص١٣٩
المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك
الاستثناء أربعة عشر وجها ومم هو، وهل ما على ظاهرها أو بمعنى من أحدها ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من أنه استثناء متصل من قوله خالدين، وما بمعنى من لكونها للوصف كقوله :﴿ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى ﴾ [ سورة النساء، الآية : ٣ ] الخ وأن عصاة المسلمين داخلون في المستثنى منه والاستثناء لإخراجهم، وزوال الحكم، وهو الخلود يكفي فيه زواله عن البعض، وأنهم المرادون بالاستثناء الثاني أنّ مدة مكثهم في النار نقصت من مدة خلودهم في الجنة فلا وجه لمن تمسك بها لخروج الكفار من النار، ولا وجه لذكره هنا. قوله :( فإنّ التأبيد من مبدأ معين الخ ) دفع لأنّ الاستثناء باعتبار الآخر لا الأوّل بأنه يصح أن يكون من أوّله، ومن آخره فإنك إذا قلت إذا مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذللى الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوّله ومن آخره، وأورد عليه أنّ الخلود إنما هو بعد الدخول فكيف ينتقض بما سبق على الدخول كيف، وقد تقدم قوله في الجنة فلذا استصوب حمل الأوّل على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى، والثاني على ما لأهل الجنة من غير نعيمها مما هو أكبر منه، ولذا عقب بقوله عطاء غير مجذوذ، وهو كالقرينة على أنه أريد به خلاف ظاهره فلا يختل النظم باختلاف الاستثناءين، والمبدأ المعين هنا دخول أهل النار في النار، ودخول أهل الجنة في الجنة وهو معلوم من السياق، والمقام فلا يرد على المصنف رحمه الله تعالى أنه ليس هنا مبدأ معين أو هو من قوله يوم يأتي. قوله :( وهؤلاء وإن شقوا الخ ( إشارة إلى أنهم داخلون في الفريقين باعتبار الصفتين فصح إرادتهما بالاستثناءين فلا يقال الثاني في السعداء، وهم ليسوا منهم، ولا يخفى ما فيه من مخالفة الظاهر. قوله :) ولا يقال فعلى هذا لم يكن الخ ) جواب عما ورد من أن العصاة دخلوا في القسمين، والاستثناء فيهما راجع إليهم باعتبار الابتداء، والانتهاء على ما ذكرت فكيف يصح هذا التقسيم مع عدم التمانع فدفعه بأن التقسيم لمنع الخلوّ فقط، وأن أهل الموقف لا يخلون من القسمين، وليس لمنع الجمع، والانفصال الحقيقي حتى يرد ما ذكر، وتقابل الحكمين لا يدل على تقابل القسمين نعم هو الظاهر منه. قوله :) أو لأنّ أهل النار ( معطوف على قوله لأنّ بعضهم، وهذا ما اختاره
الزمخشريّ من أن الاستثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم الجنة بناء على مذهبه من تخليد العصاة، وهو في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حرّ النار إلى برد الزمهرير ورذ بأنّ النار عبارة عن دار العقاب كما غلبت الجنة على دار الثواب، وقال بعض المفسرين : ليس في هذا نقل عن أحد من المفسرين، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وأجيب عنه بأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أفا دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فلا ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ نَارًا تَلَظَّى ﴾ [ سورة الليل، الآية : ١٤ ] ناراً ﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ [ سورة البقرة، الآية : ٢٤ ] وكم وكم وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة، وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف، وقوله خالدين فيها لا يدل بظاهره على أنهم ينعمون فيها فضلا عن انفرادهم بتنعمهم بها إلا أن تخص الجنة بجنة الثواب وهو تخصيص من غير دليل، وأورد عليه أن عدم هجر الأصل علم من الوصف بالتلظي، والوقود في الآيتين والتقابل في النار هنا يعضد أنه هجر فلا يرد ما ذكر نقضا. قوله :( أو من أصل الحكم الخ ) عطف على قول في الخلود في أوّل كلامه المراد بأصل الحكم قوله في النار، والأصلية مقابلة للفرعية التي للمستثنى منه في الأوّل، وهو الحال أعني خالدين أوّ لأنّ الخلود فرع الدخول، والاستثناء في هذا الوجه مفرّغ من أعمّ الأوقات المحذوف، وما على أصلها لما لا يعقل، وهو الزمان، والمعنى فأمّا الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك أليوم إلا زمانا شاء الله فيه عدم كونهم فيها، وهو زمان موقف الحساب، وأورد عليه أن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى، وليس كذلك أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار، وهو خلاف مذهب أهل السنة، وأيضاً تأخيره عن الحال على هذا لا يتضح إذ لا تعلق للاستثناء به، وقد يدفع بأن القائل بهذا يخص الأشقياء بالكفار، وبالسعداء بالأتقياء، ويكون العصاة مسكوتاً عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان من أهل السنة فإن كان من المعتزلة فقد وافق سنن طبعه، وسيأتي جواب آخر للمعترض، وأمر التقديم سهل. قوله :( أو مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ الخ ( معطوف على قوله زمان توقفهم أي المستثنى المفرّغ من أعمّ الأوقات هذه المذة إن لم يقيد الحكم بقوله يوم يأتي، وهو يوم الجزاء فإنه متعلق بتكلم، والحكم المذكور متفزع عليه فيتقيد به معنى، وعلى هذا يقطع النظر عنه فالمعنى هم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زماناً شاء الله لبثهم في الدنيا، والبرزخ، والمراد مع زمان الموقف لأنهم ليسوا في زمانه في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فظاهر مطلقاً لكنهم معذبون في البرزخ أيضاً إلا أن يقال لا يعتذ به لأنه عذاب غير تاثم لعدم تمام حياتهم فيه وما على هذا أيضا عبارة عن الزمان فهي لغير العقلاء، وأورد عليه ما أورد على ما قبله، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأوّل، وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك
الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على زمان معين حتى لا يمكن الزيادة عليه، وفيه بحث.
قوله :( وعلى هذا يحتمل التأويل أن يكون الاستثناء من الخلود الخ ) الإشارة إلى كونه مستثنى من أصل الحكم يعني إذا كان مستثنى من أصل الحكم صح استثناؤه أيضا من الخلود لأنّ من لم يكن في النار لم يكن في حال خلودها، وحاصله أنّ الاستثناء على هذا يرجع لجميع ما تبله فإنّ الاستثناء يجوز كونه من أمور متعددة كما صرّح به النحاة، ولا يرد عليه أنّ الخلود يقتضي سبق الدخول كما مز. قوله :( وقيل هو من قوله لهم فيها زفير وشهيق ( وأورد على هذا في الكشف أن المقابل لا يجري فيه هذا، ولا يرد لأنّ المراد ذكر ما تحتمله الآية والاطراد ليس بلازم. قوله :( وقيل إلا هنا بمعنى سوى الخ ) يعني أنه استثناء منقطع كما في المثال، وهذا القول اختاره الفرّاء، ويحتمل أن يريد أن إلا هنا بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مذة السماوات، والأرض سوى ما شاء الله مما لا يتناهى قال في الكشف بعد نقله وهو ضعيف، ويلزم عليه حمل السماوات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأبيد، وهو فاسد ثم إنه اختار أنّ الوجه أن يكون من باب ﴿ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [ سورة الأعراف، الآية : ٤٠ ] و ﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ﴾ [ سورة الدخان، الآية : ٥٦ ] وهو منقول عن الزجاج رحمه الله تعالى وارتضاه الطيبي رحمه الله تعالى فيكون المراد بالأشقياء الكفار وبالسعداء أهل التوحيد، والمعنى أنهم خالدون فيها إلا وقت مشيئة اللّه عدم خلودهم، وقد ثبت بالنصوص القاطعة أن لا وجود لذلك فيقدر الخلود ولا يتوهم جواز التعارض بين هذه، وبين النصوص الدالة على عدم الخلود لأن المحتمل لا يعارض القطعي وقيل إلا بمعنى الواو العاطفة، وهو قول مردود عند النحاة. قوله :( وهو تصريح بأنّ الثواب لا ينقطع ( أي قوله عطاء غير مجذوذ لبيان أنّ ثواب أهل الجنة، وهو إمّا نفس الدخول أو ما هو كاللازم البين له لا ينقطع فيعلم منه أن ألاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من اللّه أو لبيان النقص من جانب المبدأ، ولهذا فرق في النظم بين التأبيد بما تممه إذ قال في الأوّل ﴿ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ للدلالة على أنه ينعم من يعذبه، ويبقى غيره كما يشار ويختار، وفي الثاني عطاء غير مجذوذ
بيانا لأنّ إحسانه لا ينقطع. قوله :( ولأجله فرق ) أي لأجل القيد الدالّ على عدم انقطاع ثواب أهل الجنة فرق أهل السنة بين ثوابهم، وعقابهم بالتأبيد في الأوّل دون الثاني لدلالته على أنّ العقاب على ما مرّ قبل دخولهم الجنة فلا يتأبد، وقوله من سعده قد مرّ تفصيله، وقوله نصب على المصدر فيكون بمعنى الإعطاء أو على حد ﴿ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ﴾ [ سورة نوح، الاية : ١٧ ] وقوله أو الحال بالجز عطف على المصدر، وما نقله ابن عطية رحمه الله تعالى من أنه على طريق الاستثناء الذي ندبه الشارع في نحو :﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ﴾ [ سورة الفتح، الآية : ٢٧ ] فهو في محل الشرط وليس متصلا ولا منقطعاً تكلف لا حاجة إليه.
تنبيه : وقع لبعضهم هنا أنّ النار ينقطع عذابها بالكلية بخلاف نعيم أهل الجنة وأورد فيه حديثاً عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه ﷺ قال :" يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين " وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى إنه موضوع، وأشار لنحو منه الزمخشريّ إلا أنه تكلم في عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما كلاماً لا ينبغي ذكره ( وأقول ) إن قوله كأنها أبواب الموحدين بيان لأنّ المراد بأبوابها ما يخص عصاة الموحدين فلا ينافي ما عليه الإجماع ولا عبرة بمن خالفه. قوله :( شك بعدما أنزل عليك ما مآل أمره الناس ) الشك تفسير للمرثة كما مرّ، وقوله بعدما أنزل مأخوذ من تعقيب الفاه، ومآل الأمر إمّا حال الأشقياء العذاب الأليم، والسعداء النعيم المقيم، ومن لبيان ما أنزل. قوله تعالى :( ﴿ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء ﴾ ) من فيه إمّا بمعنى في أو ابتدائية، وما مصدرية أو موصولة، واليهما أشار المصنف رحمه اللّه تعالى، وعلى الثاني يقدر مضاف أي حال هؤلاء لأنه لا معنى للمرية في أنفسهم، وقوله يضرّ، ولا ينفع في نسخة لا يضرّ، ولا ينفع. قوله :( استئناف ) أي بيانيّ جواب لم نهى عن الشك فقيل لأنهم كانوا كآبائهم في الشرك فسيحل بهم
ما حل بهم، وأشار إلى أنّ ما إن كانت مصدرلة فالاستثناء من مصدر