تفسير التستري، ص : ١٥٠
من نفس الطبع، وأجهل الناس من قطع على قلبه من غير علم، فقد قال اللّه تعالى : وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ [فصلت : ٢٣] وإن العبد ليحرم الرزق الهني وصلاته بالليل بسوء الظن. وقد كان رجل من العباد نام ليلة عن ورده، فجزع عليه، فقيل : أتجزع على ما تدركه؟ قال : لست أجزع عليه، وإنما أجزع على الذنب الذي به صرت محروما عن ذلك الخير. فقيل لسهل : ما معنى قوله صلّى اللّه عليه وسلّم :«احترسوا من الناس بسوء الظن» «١»، فقال : معنى هذا بسوء الظن بنفسك لا بالناس، أي اتهم نفسك بأنك لا تنصفهم من نفسك في معاملاتهم.
قوله تعالى : وَلا تَجَسَّسُوا [١٢] قال : أي لا تبحث عن المعائب التي سترها اللّه على عباده، فإنك ربما تبتلى بذلك. وقد حكي عن عيسى عليه السلام أنه كان يقول : لا تكثروا الكلام في غير ذكر اللّه عزّ وجلّ، فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من اللّه ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا إلى أعمالكم كالعبيد، واعلموا أن الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء وسلوا اللّه العافية «٢».
قوله : وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [١٢] قال : من أراد أن يسلم من الغيبة فليسد على نفسه باب الظنون، فإن من سلم من الظن سلم من الغيبة، ومن سلم من الغيبة سلم من الزور، ومن سلم من الزور سلم من البهتان. قال : وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : للمنافق غيبة، وليس للفاسق غيبة، لأن المنافق كتم نفاقه، والفاسق افتخر بفسقه. قال : وهذا إنّما أراد به فيما أظهره من المعاصي، فأما ما كتمه من المعاصي ففيه غيبة.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)
قوله : قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [١٤] قال : يعني أقررنا مخافة السبي والقتل لأن الإيمان إقرار باللسان صدقا، وإيقان في القلب عقدا، وتحقيقها بالجوارح إخلاصا، وليس في الإيمان أنساب، وإنما الأنساب في الإسلام، والمسلم محبوب إلى الخلق، والمؤمن غني عن الخلق.
قوله : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [١٧] أي صدقوك فيما دعوتهم إليه.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٧]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [١٧] أي عالمين بأن اللّه هو الذي من عليكم بالهداية في البداية. قال سهل : استعملت الورع أربعين سنة، ثم وقع مني التفات فأدركني قوله : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [١٧].
واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
________
(١) المعجم الأوسط ١/ ١٨٩ وفتح الباري ١٠/ ٥٣١.
(٢) الموطأ ٢/ ٩٨٦ (رقم ١٧٨٤) ومصنف ابن أبي شيبة ٦/ ٣٤٠ (رقم ٣١٨٧٩)، ٧/ ٦٥ (رقم ٣٤٢٣٠) وشعب الإيمان ٤/ ٢٦٣.


الصفحة التالية
Icon