تفسير التستري، ص : ٢١
«اقرؤوا القرآن بلحون العرب من غير تكلف لغيرها، ولا تقرءوه بلحون أهل الكنائس والبيع وأهل الأهواء والبدع، فإني وأمتي الأتقياء براء من التكلف، وإنه سيأتي أقوام من بعدي يرجّعون فيه أصواتهم ترجع القينات بالأغاني، مفتونة قلوبهم فتانة لقلب السامع، أولئك هم الغافلون» «١». قال سهل : وإني أخاف بعد ثلاثمائة إلى ما فوقها أن يندرس القرآن بالتشاغل بالألحان والقصائد والأغاني، قيل له : وكيف ذلك يا أبا محمد؟ فقال : لأنهم ما أحدثوا هذه الألحان والقصائد والأغاني إلّا للتكسّب بها، حتى ملك إبليس قلوبهم، كما ملك قلوب شعراء الجاهلية، وحرموا فهم القرآن والعمل للّه به. وقد حكى محمد بن سوار عن ابن أبي ذئب «٢» عن محمد بن عبد الرحمن «٣» عن ثوبان «٤» أنه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول :«سماع الأغاني ينسي القرآن ويشغل عن الذكر». قال أبو بكر : كان أبو سعيد الخراز «٥» مقيما بمكة، وكان من أشد الناس محبة للسماع من قصائد الجذل وأشعار الغزل، فأخبرني غلامه أبو الأذنين أنه رآه بعد موته في المنام، وقال له : ما فعل اللّه بك يا أبا سعيد؟ فقال : غفر لي بعد توبيخ وددت أنه أمر بي إلى النار ولم يوبخني. فقلت له : ولم ذلك؟ قال : أوقفني الحق بين يديه من وراء حجاب الخوف، وقال لي : حملت أمري على ليلى وسعدى، ولو لا أنك وقفت لي وقفة أردتني بها لأمرت بك إلى النار، فلما أن زال حجاب الخوف إلى حجاب الرضا قلت : يا إلهي لم أجد من يحمل عني ما حملتني غيرك فأشرت إليك، قال : صدقت، وأمر بي إلى الجنة، واللّه أعلم.
________
(١) نوادر الأصول ٣/ ٢٥٥ وشعب الإيمان ٢/ ٥٤٠ (رقم ٢٦٤٩) ومجمع الزوائد ٧/ ١٦٩ والمعجم الأوسط ٧/ ١٨٣.
(٢) ابن أبي ذئب : محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة، من بني عامر (٨٠- ١٥٨ ه) : تابعي، من رواة الحديث من أهل المدينة، كان يفتي بها. (الأعلام ٦/ ١٨٩).
(٣) محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي بالولاء (...- ١٢٣ ه) : مقرىء أهل مكة بعد ابن كثير، وأعلم قرائها بالعربية، كان لا بأس به في الحديث. (الأعلام ٦/ ١٨٩).
(٤) ثوبان بن يجدد، أبو عبد اللّه (...- ٥٤ ه) : مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، اشتراه النبي ثم أعتقه، فلم يزل يخدمه إلى أن مات، فخرج ثوبان إلى الشام، واستقر بحمص، وتوفي بها. (الأعلام ٢/ ١٠٢).
(٥) أبو سعيد الخراز : عبد الرحيم بن عبد اللّه بن عبد الرحيم بن البرقي (...- ٢٨٦ ه) : شيخ الصوفية، وراوي السيرة. قال السلمي : هو إمام القوم في كل فن من علومهم. (سير أعلام النبلاء ١٣/ ٤٢٠ وتذكرة الحفاظ ٢/ ٦٣٧). وثمت رجل آخر اسمه أبو سعيد الخراز، وهو أحمد بن عيسى البغدادي الصوفي (...- ٢٧٧ أو ٢٨٦ ه) من كبار شيوخ الصوفية، وأحد المذكورين بالورع والمراقبة، وحسن الرعاية والمجاهدة. (تاريخ بغداد ٤/ ٢٧٦).


الصفحة التالية
Icon