تفسير التستري، ص : ٤٤
و وصفهم بالرضا والقنوع، فقال تعالى : لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [٢٧٣] وهم أصحاب صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهم نحو من أربعين رجلا، ليست لهم في المدينة مساكن ولا عشائر، فهذه أحوال أقوام مدحهم اللّه تعالى لشدة الافتقار إليه، لا استطاعة لهم ولا قوة إلا به ومنه، هو حولهم وقوتهم، نزع عنهم قوة سكون قلوبهم إلى غيره، وهو وسوسة النفس إلى شيء دون اللّه تعالى، فهم بهذا الوصف أعلى حالا، فمن ردّه اللّه تعالى إلى مساكنة نفسه فقال : لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف : ٧٩] فردهم إلى حالتهم التي قد سكنوا إليها.
وأما الفقير الذي سلمه الفقر إلى اللّه تعالى إن حركته في موت نفسه فهو أحسن حالا من الذي سكن إلى حال له لمتابعة نفسه. قال عمر بن واصل : وإذا كان الفقير إلى اللّه عزّ وجلّ الراضي لا يسكن إلّا بالرضا والتسليم، فقد كمل له الاسمان جميعا الفقر والمسكنة. قال أبو بكر سمعت سهلا يقول الفقير الفقير العاجز، وهو الفقر بلبلبة القلب إلى اللّه عزّ وجلّ، والسكون إليه بالطاعة والمسكنة ذل، وهي المعصية للّه. قال : وحكى الحسن عن أنس «١» رضي اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال لما أنزلت هذه الآية :«صانعوا الفقراء ليوم ملكهم. فقيل : يا رسول اللّه ومتى ملكهم؟ قال : يوم القيامة» «٢».
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨١]
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
وسئل عن قوله : وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [٢٨١] فقال : هي آخر آية ختم اللّه تعالى بها القرآن، وتوفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد نزولها بثمانين يوما.
ثم قال : إذا دخلت مظالم ليلة أهل الدنيا لأهل الدنيا ذهب النوم والقرار عن أهل السجن، ما يدرون ما يصنع بهم بدعتي عليهم، فيقتلون أو يعذبون، أم يعفى عنهم فيطلقون، فهذه مظالم أهل الدنيا لأهل الدنيا، فكيف مظالم الحق لأهل العقبى؟.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
قوله : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [٢٨٦] أي طاقتها، لَها ما كَسَبَتْ [٢٨٦] أي ثواب العمل الصالح، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [٢٨٦] يعني أوزار الذنوب. ثم قال : من لم تهمه الذنوب السالفة لم يعصم في أيامه الغابرة، ومن لم يعصمه اللّه تعالى في بقية أيامه فهو من الهالكين في معاده. قيل له : متى يعرف الرجل ذنوبه؟ قال : إذا حفظ أنوار قلبه فلم يترك شيئا
________
(١) أنس بن مالك بن النصر الأنصاري (١٠ ق ه- ٩٣ ه) : صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وخادمه. روى عنه ٢٢٨٦ حديثا. توفي بالبصرة. (الأعلام ٢/ ٢٥).
(٢) في المعجم الصغير ٢/ ١٣ والفردوس بمأثور الخطاب ٤/ ٣٩٢ رقم ٧١٣٧ :«ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة، يقولون : ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت عليهم، فيقول : وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأباعدنهم» وفي كشف الخفاء ١/ ٣٧، ٢/ ١١٤، والفردوس بمأثور الخطاب ١/ ٨٣ رقم ٢٦١ :(قال الحسين بن علي :
اتخذوا عند الفقراء الأيادي، فإن لهم دولة إذا كان يوم القيامة...).