وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف؟ قلت : هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك. فإن قلت : فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت : إذا كان الغرض هو التنبيه - والمبادي كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة - كان تطلب وجه الاختصاص ساقطا، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً، لم يقل له : لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك ولذلك لا يقال : لم سمى هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟
ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت : ما بالهم عدوّا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت : هذا علم توقيفى لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور.
أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها. وهي ست. وكذلك المص آية، والمر لم تعدّ آية، والر ليست بآية في سورها الخمس، وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، وحم آية في سورها كلها، وحم عسق آيتان، وكهيعص آية واحدة، وص وق ون ثلاثتها لم تعدّ آية. هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم، لم يعدّوا شيئا منها آية. فإن قلت : فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت : كما عدّ الرحمن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على طريق التوقيف. فإن قلت : ما حكمها في باب الوقف؟ قلت : يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلا :
(الم اللَّهُ) أى هذه الم ثم ابتدأ فقال (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). فإن قلت : هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ «١» قلت : نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام. فإن قلت : ما محلها؟ قلت : يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع : فعلى الابتداء، وأما النصب والجرّ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة اللَّه واللَّه على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدّدة.
(١). قال محمود رحمه اللَّه :«فان قلت : ما محل هذه الفواتح من الإعراب... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه : وإنما جاز النصب مع القسم فيما لا يعقبه معطوف مجرور. فأما ما يعقبه معطوف مجرور مثل ص وق ون فانه لا يجيز فيه النصب مع القسم البتة، ويحمله على إضمار فعل، أو على أن الفتح في موضع الجر. وأما على وجه بدئه فيما تقدم فيجوز النصب مع القسم في جميعها فجدد به عهداً. وعلى النصب بإضمار فعل أعربها سيبويه في كتابه.