قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ الخطاب لمشركي قريش فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا يوم بدر يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين «١» قريباً من ألفين. أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين، أراهم اللَّه إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مدداً لهم من اللَّه كما أمدّهم بالملائكة. والدليل عليه قراءة نافع : ترونهم، بالتاء أى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة، أو مثلي أنفسهم. فإن قلت : فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ). قلت : قللوا أوّلا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين. ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) وقوله تعالى :(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية. وقيل يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين «٢» على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى :(فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) بعد ما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى :(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ولذلك وصف ضعفهم «٣» بالقلة لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف وكان الكافرون ثلاثة أمثالهم. وقراءة نافع لا تساعد عليه. وقرأ ابن مصرف : يرونهم، على البناء للمفعول بالياء والتاء، أى يريهم اللَّه ذلك بقدرته. وقرئ : فئة تقاتل وأخرى كافرة، بالجرّ على البدل من فئتين، وبالنصب على الاختصاص.
أو على الحال من الضمير في التقتا رَأْيَ الْعَيْنِ يعنى رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، معاينة كسائر المعاينات وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ.
(١). قال محمود :«معناه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين... الخ» قال أحمد : وكذلك آيات الشفاعة المقدمة على رأى أهل السنة.
(٢). (عاد كلامه) قال :«و قيل يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين... الخ» قال أحمد : إنما قال ذلك لأن الخطاب على قراءة نافع يكون للمسلمين، أى ترونهم يا مسلمون، ويكون ضمير المثلين أيضاً للمسلمين. وقد جاء على لفظ الغيبة فيلزم الخروج في جملة واحدة من الحضور إلى الغيبة والالتفات وإن كان سائغا فصيحاً، إلا أنه إنما يأتى في الأغلب في جملتين. وقد جاء هاهنا الكلام جملة واحدة، لأن مثليهم مفعول ثان للرؤية، ولو قال القائل :
ظننتك يقوم، على لفظ الغيبة بعد الخطاب، لم يكن بذاك، فهذا هو الوجه الذي أعد الزمخشري به بين قراءة نافع وبين هذا التأويل، إلا أنه يلزم مثله على أحد وجهيه المتقدمين آنفا، لأنه قال : معناه على قراءة نافع : ترون يا مشركون المسلمين مثلي عددهم أو مثلي فئتكم الكافرة، فعلى هذا الوجه الثاني يلزم الخروج من الخطاب إلى الغيبة في الجملة بعينها، كما ألزمه هو على ذلك الوجه واللَّه أعلم.
(٣). قوله «و لذلك وصف ضعفهم» لعل هذا في قوله تعالى :(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا) أى وصف ضعف المسلمين وهو الستمائة بالقلة، مع أن ضعف الشيء أكثر منه، فتدبر. (ع)