أنثى. فإن قلت : فلم قالت : إنى وضعتها أنثى وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت : قالته تحسراً «١» على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها، فتحزنت إلى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكراً، ولذلك نذرته محرّراً للسدانة. ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال اللَّه تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه. ومعناه : واللَّه أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا، فلذلك تحسرت. وفي قراءة ابن عباس :(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) على خطاب اللَّه تعالى لها أى أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم اللَّه من عظم شأنه وعلوّ قدره. وقرئ :
وضعت. بمعنى : ولعلّ للَّه تعالى فيه سراً وحكمة، ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها.
فإن قلت : فما معنى قوله وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ؟ قلت : هو بيان لما في قوله :(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) من التعظيم للموضوع والرفع منه، ومعناه : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها، واللام فيهما للعهد. فإن قلت : علام عطف قوله وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ؟ قلت : هو عطف على إنى وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضتان، كقوله تعالى : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. فإن قلت : فلم ذكرت تسميتها مريم لربها؟ قلت : لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة «٢»، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها، وأن يصدق فيها ظنها بها. ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه. وما يروى من الحديث «ما من مولود يولد
(١). (عاد كلامه) قال :«و إنما أرادت بقولها : وضعتها أنثى التحسر والتأسف... الخ» قال أحمد : هذا التأويل على أنه من كلام اللَّه تعالى لا حكاية عنها. وقد ذكر أهل التفسير تأويلا آخر، وهو أن يكون هذا القول قولها حكاه اللَّه تعالى عنها، أعنى قوله :(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) ويرشد إليه عطف كلامها عليه وهو قوله :(وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ...) الخ ويوردون على هذا الوجه أن قياس كونه من قولها أن يكون : وليست الأنثى كالذكر، فان مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر، والعادة في مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس، وقد وجد الأمر في ذلك مختلفاً فلم يثبت لي عين ما قالوه. ألا ترى إلى قوله تعالى :(لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) فنفى عن الكامل شبه الناقص، مع أن الكمال لأزواج النبي عليه الصلاة والسلام ثابت بالنسبة إلى عموم النساء. وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران واللَّه أعلم. ومنه أيضا (أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ).
(٢). (عاد كلامه) قال :«و فائدة قولها (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) أن مريم في لغتهم العابدة... الخ» قال أحمد :
أما الحديث فمذكور في الصحاح متفق على صحته، فلا محيص له إذاً عن تعطيل كلامه عليه السلام بتحميله ما لا يحتمله جنوحا إلى اعتزال منتزع في فلسفة منتزع في إلحاد ظلمات بعضها فوق بعض. وقد قدمت عند قوله تعالى :(لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) ما فيه كفاية، وما أرى الشيطان إلا طعن في خواصر القدرية حتى بقرها، ووكر في قلوبهم حتى حمل الزمخشري وأمثاله أن يقول في كتاب اللَّه تعالى وكلام رسوله عليه السلام بما يتخيل، كما قال في هذا الحديث، ثم نظره بتخييل ابن الرومي في شعره، جراءة وسوء أدب. ولو كان معنى ما قاله صحيحاً لكانت هذه العبارة واجبا أن تجتنب، ولو كان الصراخ غير واقع من المولود لأمكن على بعد أن يكون تمثيلا. وما هو واقع مشاهد فلا وجه لحمله على التخييل إلا الاعتقاد الضئيل وارتكاب الهوى الوبيل.