قولك : أحبّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه، وكشفوا الكرب عن وجهه، أولئك أهل للمحبة. وإن جعلته تابعاً للمتقين، وقع الاستئناف على أولئك كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين، غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا، وبالفلاح آجلا. واعلم أنّ هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كقولك : قد أحسنت إلى زيد، زيد حقيق بالإحسان. وتارة بإعادة صفته، كقولك : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه. فإن قلت : هل يجوز أن يجرى الموصول الأوّل على المتقين، وأن يرتفع الثاني على الابتداء وأولئك خبره؟ قلت : نعم على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند اللَّه. وفي اسم الإشارة الذي هو (أولئك) إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عدّدت لهم، كما قال حاتم : وللَّه صعلوك ثم عدّد له خصالا فاصلة، ثم عقب تعديدها بقوله :
فَذلِكَ إنْ يَهْلِكْ فَحسْبى ثَنَاؤُهُ وَإنْ عاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا «١»
ومعنى الاستعلاء في قوله :(عَلى هُدىً) مثل لتمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسكهم به. شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه. ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل.
(١) ويغشى إذا ما كان يوم كريهة صدور العوالي وهو مختضب دما
أو الحرب أبدت ناجذيها وشمرت وولى هدان القوم أقدم معلما
فذلك إن يهلك فحسبي ثناؤه وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما
لحاتم الطائي، يرثى رجلا بأنه عالى الهمة، وإذا كان يوم حرب يذهب إلى صدور الرماح وينزل فيما بينها، والحال أنه مختضب بالدم منها. وقوله «أو الحرب» عطف على قوله «كان يوم كريهة» وإسناد إبداء الناجذ والتشمير عن الساعد مثلا إلى الحرب مجاز عقلى، لأنها سبب في أن الفرسان يفعلون ذلك. ويجوز أنه شبهها في قوتها واشتدادها بشجاع يفعل ذلك على طريق الكناية وإبداء الناجذ والتشمير تخييل. والناجذ : آخر الأضراس وهو ضرس الحلم. والهدان - ككتاب - : الأحمق الثقيل، وجمعه هدون - من الهدنة وهي السكون -. وأقدم : جواب الشرط، معلما للناس بأنه فلان على عادة الفرسان، أو معلما فرسه مسومها. فذلك الموصوف بتلك الصفات المختص بتلك الخصال، هو المستحق لأن يقال فيه إن يهلك ويمت فيكفنى ثناؤه فخراً : أى ذكره بين الناس بالجميل. وقوله «إن عاش» شرط لا يقتضى الوقوع، لكن ذكره دلالة على أنه محمود الفعال على أى حال. وقوله «لم يقعد» قليل المدح في الظاهر كثيره عند أولى البصائر : أى بل يقعد على حاله المشهورة وخصاله الحميدة.