ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما ردّ اللَّه ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك «١». أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور، لأن قلوبهم كانت قوية، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به : أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تسكن ولواءه يخفق أياما ثم يقرّ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال اللَّه على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله. وإما لجرامتهم وجسارتهم في الحروب فضعفت جبناً وخورا «٢» حين قذف اللَّه في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين وإمداد اللَّه لهم بالملائكة. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم :«نصرت بالرعب مسيرة شهر»»
. ومعنى زيادة اللَّه إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحى فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم، فكأن اللَّه هو الذي زادهم ما ازدادوه إسنادا للفعل إلى المسبب له، كما أسنده إلى السورة في قوله :(فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) لكونها سببا. أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطا في البلاد ونقصا من أطراف الأرض ازدادوا حسدا وغلا وبغضا وازدادت قلوبهم ضعفا وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبنا وخورا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع. وقرأ أبو عمرو في رواية الأصمعى :
مرض، ومرضا، بسكون الراء :
يقال ألم فهو أَلِيمٌ كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله :
تحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ «٤»
(١). متفق عليه من رواية عروة عن أسامة بن زيد أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فركبه وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة. فذكره مطولا
(٢). قوله «جبنا وخوراً» الخور بالتحريك : الضعف، كما في الصحاح. (ع) [.....]
(٣). متفق عليه من حديث جابر رضى اللَّه عنه.
(٤) أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقنى وأصحابى هجوع
وسوق كتيبة دلفت لأخرى كأن زهاءها رأس صليع
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
لعمرو بن معديكرب صاحب ريحانة أخت دريد بن الصمة، التمس منه زواجها فأجابه ومطله. وقيل : ريحانة اسم موضع بعينه. والسميع : المسمع على اسم المفعول، أو المسموع، أو المسمع على اسم الفاعل، أو السامع وأصل فعيل أن يكون بمعنى فاعل كعليم. وكذا ما جاء بمعنى مفعول كجريح وقتيل. وندر من الرباعي بمعنى مفعل اسم فاعل كوجيع، وبمعنى مفعل اسم مفعول كسميع بمعنى مسمع اسم مفعول. وكثر سماعا بمعنى مفاعل كجليس وشريك.
وسميع : مبتدأ، خبره يؤرقنى أى هل داعى الشوق من ريحانة يسهرني والحال أن أصحابى نيام؟ والاستفهام للتعجب «و سوق كتيبة» عطف على الداعي أو على ضمير يؤرقنى. والكتيبة : الجماعة المنضمة المنتظمة. ودلف دلفاً من باب تعب مشى بتؤدة. وقيل تقدم وأسرع. كان زهاءها : أى مقدارها. والصليع : الذي لا شعر فيه، ولعله شبهها بذلك الرأس في التجرد والانكشاف والظهور والتمام كما يقال : جيش أقرع، وألف أقرع : أى تام مجازاً. وخيل : أى وأصحاب خيل قد تقدمت لها بمثلها. والتحية : الدعاء بالحياة، فأخبر عنها بالضرب الوجيع على سبيل التهكم.
وضمير «بينهم» للخيل بمعنى الجيش. وانتقل من ذكر ريحانة إلى ذكر الحرب لأنه كان أغار على دريد في طلبها.