وقيل : هو جمع، والواحد نصاب. وقرئ (النُّصُبِ) بسكون الصاد وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام أى بالقداح. كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحا أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح، وهي مكتوب على بعضها : نهاني ربى، وعلى بعضها : أمرنى ربى، وبعضها غفل فإن خرج الآمر مضى لطيته «١»، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أجالها عوداً. فمعنى الاستقسام بالأزلام : طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام. وقيل : هو الميسر. وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة ذلِكُمْ فِسْقٌ الإشارة إلى الاستقسام : أو إلى تناول ما حرّم عليهم لأنّ المعنى حرّم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا.
فإن قلت : لم كان استقسام المسافر وغيره يا لأزلام لتعرف الحال فسقاً؟ قلت : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوم وقال :(لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) واعتقاد أنّ إليه طريقاً وإلى استنباطه «٢»، وقوله : أمرنى ربى، ونهاني ربى : افتراء على اللَّه. وما يدريه أنه أمره أو نهاه. والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم - فقد روى أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم - فأمره ظاهر الْيَوْمَ لم يرد به يوماً بعينه، وإنما أراد به الزمان الحاضر وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية، كقولك : كنت بالأمس شابا، وأنت اليوم أشيب، فلا تريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك، ولا باليوم يومك. ونحوه «الآن» في قوله :
الآنَ لمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِى وَعَضَضْتُ مِنْ نَابِى عَلَى لَجذَمِ «٣»

__
(١). قوله «فان خرج الآمر مضى لطيته» بكسر الطاء، أى لنيته التي انتواها. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «و إلى استنباطه» لعل بعده سقطا تقديره : سبيلا خطأ وضلال. (ع)
(٣) الآن لما ابيض مسربتي وعضضت من نابي على جذم
حلبت هذا الدهر أشطره وأتيت ما آتى على علم
للذهلى. وقيل : لأبى العلاء المعرى. و«الآن» الزمن الحاضر. و«المسربة» بضم الراء - وقد تفتح - :
الشعرات التي تنبت وسط الصدر دقيقة مستطيلة إلى أسفل السرة، وهي آخر ما يشيب من الإنسان، فبياضها كناية عن بلوغه غاية الشيب، وأما المسربة بالفتح فقط فهي مخرج الغائط. و«من نابي» حال مقدمة. و«من» تبعيضية. و«الجذم» أصل الشيء، كأن أنيابه تفتتت حتى لم يبق إلا أصولها. ويجوز أن المعنى : أنها سقطت وبقي محلها من اللحم، وهو أيضا كناية عما تقدم توكيد له في المعنى. و«حلبت هذا الدهر» أى جمعت ما فيه من الحوادث وجربتها. و«أشطره» نواحيه وجوانبه فكأنه شبه الزمان بمكان له جوانب على طريق الكناية، وإثبات الأشطر تخييل، وهو نصب على البدلية. والشطر أيضاً : نصف ضرع الناقة : فيه خالفان، وفي النصف الآخر خالفان. فشبه الدهر بناقة على طريق المكنية، وإثبات الأشطر تخييل. وحلبها ترشيح. وهذا أوجه وأقرب من الأول. وأشطره : نصب على البدلية أيضا. ويمكن أن حلب مضاعف للتعدية لا للمبالغة. فالمعنى :
جعلت الدهر يحلب لي أشطره ويجمع لي ما فيها من الغرائب والعجائب. وقيل : المراد بأشطره أنواع الخير والشر.
وأتيت : أى فعلت لأن من يفعل الشيء لا بد من توجه جسمه وقلبه إليه. والمعنى : صارت عادتى أنى أفعل ما أفعله على علم عندي، من طول تجربتى لحوادث الدهر.


الصفحة التالية
Icon