إِنَّا مَعَكُمْ إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم. فإن قلت : لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية، وشياطينهم بالاسمية محققة بأن؟ «١» قلت : ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين وأوكدهما، لأنهم في ادّعاء حدوث الإيمان منهم ونشئه من قبلهم، لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان غير مشقوق فيه غبارهم، وذلك إما لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه، إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرّك، وهكذا كل قول لم يصدر عن أريحية وصدق رغبة واعتقاد. وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التوكيد والمبالغة. وكيف يقولونه ويطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار الذين مثلهم في التوراة والإنجيل.
ألا ترى إلى حكاية اللَّه قول المؤمنين :(رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا). وأما مخاطبة إخوانهم، فهم فيما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اليهودية والقرار على اعتقاد الكفر، والبعد من أن يزلوا عنه على صدق رغبة ووفور نشاط وارتياح للتكلم به، وما قالوه من ذلك فهو رائج عنهم متقبل منهم، فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد. فإن قلت : أنى تعلق قوله : إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بقوله :(إِنَّا مَعَكُمْ) قلت : هو توكيد له، لأن قوله :(إِنَّا مَعَكُمْ) معناه الثبات على اليهودية. وقوله :(إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ردّ للإسلام ودفع له منهم، لأن المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدا به، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو بدل منه، لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر. أو استئناف، كأنهم اعترضوا عليهم حين قالوا لهم :(إِنَّا مَعَكُمْ)، فقالوا : فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام فقالوا :(إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).
والاستهزاء : السخرية والاستخفاف، وأصل الباب الخفة - من الهزء وهو القتل السريع - وهزأ يهزأ : مات على المكان. عن بعض العرب : مشيت فغلبت فظننت لأهز أنّ على مكاني. وناقته تهزأ به : أى تسرع وتخف. فإن قلت : لا يجوز الاستهزاء على اللَّه تعالى، لأنه متعال عن القبيح، والسخرية من باب العيب والجهل. ألا ترى إلى قوله :(قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)، فما معنى استهزائه بهم؟ قلت : معناه إنزال الهوان والحقارة بهم، لأنّ المستهزئ غرضه الذي يرميه هو طلب الخفة والزراية ممن يهزأ به،

__
(١). قال محمود رحمه اللَّه :«إن قلت لم كانت مخاطبتهم المؤمنين بالجملة الفعلية... الخ»؟ قال أحمد رحمه اللَّه : وبنى هذا التقرير على أن الجملة الاسمية أثبت من الفعلية خصوصاً مؤكدة بأن مردفة بانما على أنه قد حكى إيمان المؤمنين المخلصين بالجملة الفعلية أيضا في قوله :(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ). وعلي الجملة فلقد أحسن الزمخشري رحمه اللَّه في تقريره ما شاء وأجمل ما أراد.


الصفحة التالية
Icon