وليس لقائل أن يقول : طوى ذكرهم عن الجملة بحذف المبتدإ فأتسلق بذلك إلى تسميته استعارة لأنه في حكم المنطوق به، نظيره قول من يخاطب الحجاج :
أَسَدٌ عَلَىَّ وفي الحُرُوبِ نَعَامَةٌ فَتْخاءُ تَنْفُرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ «١»
ومعنى لا يَرْجِعُونَ أنهم لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، تسجيلا عليهم بالطبع. أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩ إلى ٢٠]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
ثم ثنى اللَّه سبحانه في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح. وكما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع. أنشد الجاحظ :

__
(١). أسد على وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلا كررت على غزالة في الوغي بل كان قلبك في جناحي طائر
لعمران بن حطان قاتل الحجاج. روى أن شبيب الخارجي وأمه جهيزة وامرأته غزالة، كانوا في غاية الفراسة فدخلوا الكوفة في ألف وثلاثين فارسا، وفيها حينئذ الحجاج ومعه ثلاثون ألف مقاتل فحاربوه سنة كاملة حتى هرب منهم فعيره عمران بذلك : أى أنت كالأسد، ولا يصح استعارة عند الجمهور لنية ذكر المشبه. وجوزها التفتازاني على أن المذكور فرد هن أفراده لا عينه. و«على» متعلق بأسد، لما فيه من معنى الشجاعة والقوة، و«في الحروب» متعلق بنعامة، لما فيه من معنى الجبن والضعف. وهذا ظاهر على مذهب العلامة، لأن الأسد مستعار لمطلق شجاع، والنعامة لمطلق جبان. وأما على مذهب الجمهور فهما جامدان لبقائهما على حقيقتهما، إلا أن يقال : لما وقع في مقام التشبيه لو حظ فيهما الوصف الذي بنيت عليه المشابهة. ويجوز تعلقهما بمعنى التشبيه، أو بمحذوف حال من المبتدأ المحذوف على رأى سيبويه. والفتخ - بالتحريك - لين وانفراج في الأصابع والأجنحة. والفتخاء : وصف منه.
وتنفر : صفة نعامة، أى تفزع وتهلع خوفا من أدنى صوت تسمعه. وصفها بغاية الضعف ليدل على أن المشبه كذلك ثم وبخه بقوله : هلا كررت على تلك المرأة في الحرب. لم تفعل ذلك بل كان قلبك يخضق ويضطرب، كأنه في جناحي طائر، وهو من التشبيه البليغ. ويروى : هلا برزت إلى غزالة.


الصفحة التالية
Icon