يُسْقَوْنَ مِنْ وِرْدِ البَرِيصِ عليْهِمُ بَرْدَي يُصَفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ «١»
حيث ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردي، ولا محل لقوله :(يَجْعَلُونَ) لكونه مستأنفا، لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدّة والهول، فكأن قائلا قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل :(يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ثم قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل : يكاد البرق يخطف أبصارهم. فان قلت : رأيس الأصبع هو الذي يجعل في الأذن «٢» فهلا قيل أناملهم؟ قلت : هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها، كقوله :
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ)، (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) أراد البعض الذي هو إلى المرفق والذي إلى الرسغ. وأيضا ففي ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل. فان قلت : فالأصبع التي تسدّ بها الأذن أصبع خاصة، «٣» فلم ذكر الاسم العام دون الخاص؟ قلت : لأن السبابة

__
(١) للَّه در عصابة نادمتهم يوما بجلق في الزمان الأول
يسقون من ورد البريص عليهم بردي يصفق بالرحيق السلسل
لحسان بن ثابت يذكر أيام ملوك الشام الغسانيين. والعصابة : الجماعة على رأى واحد. وجلق - بالتشديد - اسم أعجمى لبلد. «و في الزمان» متعلق بمحذوف صفة ليوم الواقع ظرفا للمنادمة، وهي المحادثة على الشراب. والبريص اسم واد. ويروى - بفتحتان - : علم لنهر بدمشق وحبل بالحجاز واسم للبحر. ويصفق : أى يمتزج. وقيل «يتصفى» ينقله من إناء إلى آخر. ولعله رواه «يصفى» من التصفية. والرحيق : الصافي. والسلسل : السهل المساغ «و من ورد» مفعول أول، و«عليهم» قيل متعلق بمحذوف حال من الضمير المنوي في ورد. والظاهر أنه متعلق بورد أى أقبل ونزل. و«بردي» مفعول ثان. و«يصفق» جملة حالية. والمعنى : أن كل من ورد عليهم البريص يسقونه ماء بردي حال كونه يصفق على ما مر. ويجوز أن يكون معناه تتلاطم أمواجه فالباء للملابسة. ويحتمل أن فيه قلباً. والأصل يصفق الرحيق السلسل به، ولعل ذلك كناية عن كرمهم لإكثارهم العطاء. وقيل الرحيق السلسل الخمر الصافية السهلة. والمعنى على التشبيه، أى بماء كأنه الخمر. والظاهر بقاؤه على حقيقته، ويكون ذلك قبل تحريمها وهو أوقع في مقام المدح. فان قلت :«بردي» مؤنث، فلم قال «يصفق» بالتذكير؟ قلت : هناك مضاف مذكر حذف، فقام المضاف إليه مقامه في الإعراب والتذكير. والأصل : ماء بردي. [.....]
(٢). قال محمود رحمه اللَّه :«فان قلت المجعول من الأصابع في الآذان رءوسها... الخ» قال أحمد رحمه اللَّه : لأن فيه إشعاراً بأنهم يبالغون في إدخال أصابعهم في آذانهم فوق العادة المعتادة في ذلك فرارا من شدة الصوت.
(٣). قال محمود رحمه اللَّه :«فان قلت : فالأصبع التي تسد بها الأذن... الخ». قال أحمد رحمه اللَّه : لا ورود لهذين السؤالين. أما الأول فلأنه غير لازم أن يسدرا في تلك الحالة بالسبابة ولا بد فإنها حالة حيرة ودهش، فأى أصبع اتفق أن يسدوا بها فعلوا غير معرجين على ترتيب معتاد في ذلك، فذكر مطلق الأصابع أدل على الدهش والحيرة. أو فلعلهم يؤثرون في هذا الحال سد آذانهم بالوسطى، لأنها أصم للأذن وأحجب للصوت فلم يلزم اقتصارهم على السبابة. وأما السؤال الثاني فمفرع على الأول، وقد ظهر بطلانه وأيضا ففيه مزيد ركاكة، إذ الغرض تشبيه حال المنافقين بحال أمثالهم من ذوى الحيرة، فكيف يليق أن يكنى عن أصابعهم بالمسبحات؟ ولعل ألسنتهم ما سبحت اللَّه قط. ثم إذا كان الغرض من التمثيل تصوير المعاني في الأذهان تصوير المحسوسات، فذلك خليق بذكر الصرائح واجتناب الكنايات والرموز.


الصفحة التالية
Icon