من كان في قلبه غل على أخيه في الدنيا نزع منه، فسلمت قلوبهم وطهرت ولم يكن بينهم إلا التوادّ والتعاطف. وعن علىّ رضى اللّه عنه : إنى لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم «١» هَدانا لِهذا أى وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ اللام لتوكيد النفي «٢» ويعنون : وما كان يستقيم أن تكون مهتدين لولا هداية اللّه وتوفيقه. وفي مصاحف أهل الشام : ما كنا لنهتدي بغير واو، على أنها جملة موضحة للأولى لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا، وتلذذاً بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً، كما نرى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أن مخففة من الثقيلة تقديره : ونودوا بأنه تلكم الجنة أُورِثْتُمُوها والضمير ضمير الشأن والحديث أو تكون بمعنى أى، لأنّ المناداة من القول، كأنه قيل : وقيل لهم أى تلكم الجنة أورثتموها «٣»
(١). أخرجه ابن سعد من رواية جعفر بن محمد عن أبيه. والطبري من رواية معمر عن قتادة عن على وكلاما منقطع. وفي ابن أبى شيبة من رواية ربحى عن على. وهو متصل.
(٢). قال محمود : اللام لتوكيد النفي يعنون وما كان يستقيم... الخ» قال أحمد : وهذه تكفح وجوه القدرية بالرد، فإنها شاهدة شهادة تامة مؤكدة باللام على أن المهتدى من خلق اللّه له الهدى، وأن غير ذلك محال أن يكون، فلا يهتدى إلا من هدى اللّه، ولو لم يهده لم يهتد، وأما القدرية فيزعمون أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى، فهو إذاً مهتد وإن لم يهده اللّه، إذ هدى اللّه العبد خلق الهدى له - وفي زعمهم أن اللّه تعالى لم يخلق لأحد من المهتدين الهدى، ولا يتوقف ذلك على خلقه - تعالى اللّه عما يقولون - ولما فطن الزمخشري لذلك، جرى على عادته في تحريف الهدى من اللّه تعالى إلى اللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، فأنصف من نفسك واعرض قول القائل : المهتدى من اهتدى بنفسه من غير أن يهديه اللّه - أى يخلق له الهدى، على قوله تعالى حكاية عن قول الموحدين في دار الحق وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وانظر تباين هذين القولين، أعنى قول المعتزلي في الدنيا، وقول الموحد في الآخرة في مقعد صدق. واختر لنفسك أى الفريقين تقتدى به، وما أراك - والخطاب لكل عاقل تعدل بهذا القول المحكي عن أوليا اللّه في دار السلام منوها به في الكتاب العزيز، قول قدرى ضال تذبذب مع هواء وتعصبه في دار الغرور والزوال، نسأل اللّه حسن المآب والمآل.
(٣). عاد كلامه. قال :«و قوله تعالى وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ المراد بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة» قال أحمد : يعنى بالمبطلة قوما سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام «لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله ولكن بفضل اللّه وبرحمته. قيل : ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال :«و لا أنا إلا أن يتغمدني اللّه بفضل منه ورحمة» فقالوا صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل السنة. قيل لهم : فما معنى قوله تعالى وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ قالوا : اللّه تفضل بأن جعل الجنة جزاء العمل، فضلا منه ورحمة، لا أن ذلك مستحق عليه وواجب العباد وجوب الديون التي لا اختيار في أدائها، جمعا بين الدليلين على وجه يطابق دليل العقل، الدال على أن اللّه تعالى يستحيل أن يجب عليه شيء، فانظر أيها المنصف، هل تجد في هذا الكلام من الباطل ما يوجب أن يلقب أصحابه بالمبطلة؟ وحاكم نفسك إليها، ثم إذا وضح لك أنهم برآء في هذا البر، فاعرضه على قوم زعموا أنهم يستحقون على اللّه تعالى حقا بأعمالهم التي لا ينتفع بوجودها ولا يتضرر بتركها - تعالى وتقدس عن ذلك - ويطلقون القول بلسان الجرأة أن الجنة ونعيمها أقطاعهم بحق مستحق على اللّه تعالى لا تفضل له عليهم فيه. بل هو بمثابة دين تقاضاه بعض الناس من مديانه. وانظر أى الفريقين المذكورين أحق بلقب المبطلة، والسلام.