وإن كان بريئا من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب، فإن قلت : فما معنى قوله وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ واللّه تعالى متعال أن يشاء ردّة المؤمنين «١» وعودهم في الكفر «٢»؟ قلت : معناه إلا أن يشاء اللّه خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه انها لا تنفع فينا وتكون عبثاً. والعبث قبيح لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أى هو عالم بكل شيء مما كان وما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل، وقلوبهم كيف تتقلب، وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان. ويجوز أن يكون قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ حسما لطمعهم «٣» في العود، لأن مشيئة اللّه لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة «٤» أَوَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين. وما يكون لنا، وما ينبغي لنا، وما يصح لنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا احكم بيننا. والفتاحة، الحكومة، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا وَبَيْنَ قَوْمِنا وينكشف بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ كقوله وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. فإن قلت : كيف أسلوب قوله قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ؟ قلت : هو إخبار مقيد بالشرط، وفيه وجهان، أحدهما : أن يكون كلاما مستأنفاً فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا : ما أكذبنا على اللّه إن عدنا في الكفر بعد الإسلام، لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأنّ الكافر مفتر على اللّه الكذب، حيث يزعم أنّ للّه نداً ولا ندّ له. والمرتدّ مثله في ذلك وزائد عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفى عليه من التمييز

__ (٢). قال محمود :«إن قلت اللّه تعالى مقدس عن أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم إلى الكفر... الخ». قال أحمد : وهذا السؤال كما ترى مفرع على القاعدة الفاسدة، في اعتقاد وجوب رعاية الصلاح والأصلح، وهو غير موجه على قاعدة السنة، فظاهر الآية هو المعول عليه لا يجوز تأويله ولا تبديله. وأما استدلال الزمخشري على صحة تأويله بقوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فمن احتيالاته في التأويلات الباطلة، يعضدها ويتبع الشبه ويلفقها. وموقع قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة، فان العود إلى الكفر جائز في قدرة اللّه أن يقع من العبد، ولو وقع فبقدرة اللّه ومشيئته المغيبة عن خلقه، فالحذر قائم والخوف لازم، ولكن لمن وفقه اللّه تعالى للعقيدة الصحيحة والايمان السالم، واللّه الموفق. ونظيره قول إبراهيم عليه السلام وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة بحد اللّه تعالى بالانفراد بعلم الغائبات، واللّه أعلم.
(٣). عاد كلامه. قال : ويجوز أن يكون المراد حسم طمعهم... الخ» قال أحمد : وهذا من الطراز الأول، فألحقه به، وسحقا سحقا.
(١). قوله «و اللّه تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين» أى تنزه عن أن يشاء الخ، على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد الشر. أما عند أهل السنة فيريده كالخير. (ع)
(٤). قوله «محال خارج عن الحكمة» مبنى على مذهب المعتزلة أيضا. (ع)


الصفحة التالية
Icon