قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ لأن الكلام خطاب للمسلمين. ومعناه : براءة من اللّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا عليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفىَّ كالغادر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعنى أنّ قضية التقوى أن لا يسوّى بين القبيلين فاتقوا اللّه في ذلك لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط وَلَمْ يُظاهِرُوا ولم يعاونوا عَلَيْكُمْ عدوّا، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنشد :
لَاهُمَّ إنِّى نَاشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْفَ أَبِينَا وَأبِيكَ الأَتْلَدَا
إن قُرَيْشا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا ذِمَامَكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدَا وَقَتَلُونَا رُكَّعا وَسُجَّدَا «١»

__
(١) إن قريشا أخلفوك الموعدا وتقضوا ذمامك المؤكدا
وزعموا أن لست تنجي أحدا وهم أذل وأقل عدداً
هم بيتونا في الحطيم هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك اللّه نصراً اعتدا وادع عباد اللّه يأتوا مددا
فيهم رسول اللّه قد تجردا في فيلق كالبحر يجرى مزيدا
أبيض مثل الشمس يسمو صعدا إن شيم خطب وجهه تربدا
لعمرو بن سلام الخزاعي. لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة أعانت قريش بنى بكر على حرب بنى خزاعة، ففزع عمرو إليه بالمدينة وأنشده ذلك، فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : لا نصرت إن لم أنصركم. و«لاهم» أصله اللهم، خفف وأظهر في مقام الإضمار للدلالة على التعظيم والتهييج لما أراده. والحلف : العهد. والأتلد :
الأقدم. والتفت إلى الخطاب للاستعطاف. وجعله كالأب لهم لمراعاته مصالحهم. وعطف بثمة للترتيب في الاخبار ونزع إليه كناية عن نقض العهد. و«الذمام» العهد. وقيل : مع ذمة بمعنى العهد أيضا. وروى «ميثاقك».
وأذل، وأقل، بمعنى أذلاء قليلون، فليس مفيدا للزيادة. ويجوز أنه على بابه بالنظر لزعمهم، أى : أذل وأقل مما زعموا فيك وفي قومك. و«الحطيم» معروف، كانوا في الجاهلية يحلفون فيه فيحطم الكاذب. ويروى «بالأتير» والأتير : الطريق، وواحدة وتيرة. وهو هنا اسم ماء لخزاعة بأسفل مكة. و«الهجد» جمع هاجد، وهو المتيقظ من النوم العبادة. و«العتيد» الحاضر، يقال : عنده تعتيدا، وأعتده إعتاداً : هيأه وأحضره، فهو عتيد وأعتد.
وفيه جعل اسم التفضيل بمعنى المفعول، فلعله من عند إذا حضر. والأصل أعده إعداداً فأبدلت الدال تاء، و«هداك اللّه» جملة اعتراضية دعائية. و«المدد» الزيادة : أى يأتوا زيادة لنا تعيننا على أعدائنا. وفي الاضافة إلى اللّه تهييج لهم. و«الفيلق» الجيش المزدحم المتكاثف. كالبحر في الكثرة وسرعة السير. و«المزيد» المخرج للرغوة من شدة السير والغليان. «يسمو» يعلو «صعداً» أى صعوداً. «إن شيم» أى رئي. وروى بالمهملة : أى أحق، «تريد» أى تغير وصار مغيراً كلون الرماد. والغضب عند نزول المكروه أمارة الشجاعة. وهذا كان سبب فتح مكة.


الصفحة التالية
Icon