وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحى إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجلّ نعمته وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدّة بطشه بهم، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة. والقائلون هم اليهود، بدليل قراءة من قرأ : تَجْعَلُونَهُ بالتاء. وكذلك تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فألزموا ما لا بدّ لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم «١» سوء جهلهم لكتابهم وتحريفهم، وإبداء بعض وإخفاء بعض فقيل : جاءَ بِهِ مُوسى وهو نور وهدى للناس، حتى غيروه ونقصوه وجعاطيس مقطعة وورقات مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء. وروى أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أنّ اللّه يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين، قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود «٢». فضحك القوم، فغضب، ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فقال له قومه : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال : إنه أغضبنى، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.
وقيل القائلون قريش «٣» وقد ألزموا إنزال التوراة، لأنهم كانوا يسماعون من اليهود بالمدينة ذكر موسى والتوراة، وكانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب، لكنا أهدى منهم وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ الخطاب لليهود، أى علمتم على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم مما أوحى إليه ما لم تعلموا أنتم، وأنتم حملة التوراة، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وقيل الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى : لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم. قُلِ اللَّهُ أى أنزله اللّه، فإنهم لا يقدرون أن ينا كروك ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ في باطلهم الذي يخوضون فيه، ولا عليك بعد إلزام الحجة.
ويقال لمن كان في عمل لا يجدى عليه : إنما أنت لاعب. ويَلْعَبُونَ حال من ذرهم، أو من خوضهم، ويجوز أن يكون فِي خَوْضِهِمْ حالا من يلعبون، وأن يكون صلة لهم أو لذرهم

__
(١). قال محمود :«و أدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم... الخ» قال أحمد : وهذا أيضا من دقة نظره في الكتاب العزيز والتعمق في آثار معادنه، وإبراز محاسنه.
(٢). أخرجه الواحدي في الأسباب من طريق سعيد بن جبير «أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لمالك بن الصيف فذكره إلى قوله - فغضب ثم قال : ما أنزل اللّه على بشر من شي ء» وكذلك أخرجه الطبري من رواية جعفر بن أبى المغيرة عن سعيد بن جبير.
(٣). قوله «و قيل القائلون قريش» أخرجه الطبري عن مجاهد.


الصفحة التالية
Icon