الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها «١» جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها : وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعا. ألا ترى إلى قولها وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ و«ما» نافية، أى : ليس جزاؤه إلا السجن. ويجوز أن تكون استفهامية، بمعنى : أى شيء جزاؤه إلا السجن، كما تقول : من في الدار إلا زيد. فإن قلت : كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف، وإنه أراد بها سوءا «٢» قلت :
قصدت العموم، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف. وقيل : العذاب الأليم الضرب بالسياط. ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال : هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولولا ذلك لكتم عليها وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل كان ابن عمّ لها، إنما ألقى اللّه الشهادة على لسان من هو من أهلها، لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل : هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب. وقيل كان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه اللّه ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل : كان ابن خال لها صبيا في المهد. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم «تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى» «٣»

__
(١). قوله «إذ لم يؤاتها» في الصحاح : وتقول آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة، إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول : وأتيته. (ع)
(٢). قال محمود :«إن قلت : لم قالت ما قالت غير مصرحة بذكر يوسف... الخ»؟ قال أحمد : أو أظهرت بهذا الإجمال الحياء والحشمة أن تقول لبعلها : هذا أراد بى سوءاً ولذلك أيضا كنت بالسوء عما أضمرته من الهناة مبالغة في المكر والكيد، وإبعاد للتهمة عنها بتوقى ما يشعر منها بالتبرج والقحة، وعلى الضد من مقصودها وإن وافق ملاحظتها بحشمة الإجمال : قول ابنة شعيب تمدح موسى عليه السلام فيما حكى اللّه عنها قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ولم تقل : إنه قوى أمين، حياء من التعيين وحشمة وخفراً، ولكن هذه إنما بعثها على هذا الأدب شيمة الحياء، وامرأة العزيز إنما بعثها عليه التكلف والاستعمال لذلك الغرض الفاسد من المكر، واللّه أعلم.
(٣). أخرجه الحاكم وابن حبان وأحمد وابن أبى شيبة والبزار وأبو يعلى. والطبري والبيهقي في السادس عشر من الشعب كلهم من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى اللّه عنهما رفعه «لما أسرى بى مرت رائحة طيبة - الحديث» فيه قصة الماشطة، وفي آخره قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «تكلم في المهد أربعة، وهم صغار : هذا، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وفي الحاكم أيضاً من رواية مسلم بن إبراهيم عن جريج بن حازم عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة رفعه «لم يتكلم في المهد إلا أربعة وهم صغار : عيسى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وابن ماشطة فرعون» وذكره بلفظ ثلاثة. وذكر الثالث ابن المرأة التي ألقيت في النار. فخشيت على ولدها فكلمها» وفي الصحيحين من وجه آخر عن أبى هريرة مرفوعا :«لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبى كان يرضع فمر رجل راكب على دابة - الحديث» اقتصر الطيبي على هذا الأخذ فلم يصب، وبهذا الاعتبار صاروا خمسة. وروى الثعلبي عن الضحاك أنهم ستة زادهم يحيى بن زكريا. [.....]


الصفحة التالية
Icon