لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، يعنى : هل علمتم قبحه فتبتم إلى اللّه منه، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجرّ إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين، لا معاتبة وتثريباً، إيثاراً لحق اللّه على حق نفسه، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، «١» ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فللّه أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها «٢» وللّه حصا عقولهم ما أرزنها وأرجحها. وقيل. لم يرد نفى العلم عنهم، لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل «٣»، سماهم جاهلين. وقيل :
معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة. روى أنهم لما قالوا : مسنا وأهلنا الضر، وتضرعوا إليه : ارفضت عيناه، ثم قال هذا القول. وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن إبراهيم خليل اللّه، إلى عزيز مصر. أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء : أما جدّى، فشدّت يداه ورجلاه ورمى به في النار ليحرق فنجاه اللّه وجعلت النار عليه برداً وسلاماً، وأما أبى فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه اللّه. وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادى إلىّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتونى بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق، وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإن رددته علىّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره، فقال لهم ذلك. وروى أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فإن قلت : ما فعلهم بأخيه؟
قلت : تعريضهم إياه للغم والثكل «٤» بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى.

__
(١). قوله «و ينفث المصدور... الخ» المصدور : الذي يشتكى صدره. والمحنق : المغيظ. والموتور : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). قوله «ما أوطأها وأسجحها» أى ما أسهلها وما أرفقها، أفاده الصحاح. وفيه : فلان ذو حصاة، أى ذو عقل ولب، فحصا عقولهم : إضافة بيانية. (ع)
(٣). قوله «و لا يقدم عليه إلا جاهل» لعله عطف على المعنى لأن قوله «لم يفعلوا الخ» بمعنى فعلوا مالا يقتضيه العلم. (ع)
(٤). والثكل : فقدان المرأة ولدها، كما في الصحاح. والمراد هنا الحزن. (ع)


الصفحة التالية
Icon