وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة من مبتدإ وخبر، وقعت اعتراضا : أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح. ولا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ اعتراض. والمعنى : أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا اللّه. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون، يعنى أنهم يدّعون علم الأنساب، وقد نفى اللّه علمها عن العباد فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل «١»، كقوله عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ أو ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. أو وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أى هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، إقناطاً لهم من التصديق. ألا ترى إلى قوله فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وهذا قول قوى. أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء : أطبقوا أفواهكم واسكتوا. أو ردّوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون. وقيل :
الأيدى، جمع يد وهي النعمة بمعنى الأيادى، أى : ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحى إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها، فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان باللّه. وقرئ :«تدعونا»، بإدغام النون مُرِيبٍ موقع في الريبة أو ذى ريبة، من أرابه، وأراب «٢» الرجل، وهي قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر.
[سورة إبراهيم (١٤) : آية ١٠]
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠)
أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أدخلت همزة الإنكار على الظرف، لأن الكلام ليس في الشك، إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
(١). قال محمود :«معناه عضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل... الخ» قال أحمد : وأقوى هذه الوجوه هذا الوجه الذي نبه المصنف على اختصاصه بالقوة، وإنما كان كذلك لأن إقناطهم الرسل من الايمان قولا وفعلا بوضع اليد في الفم، هو المناسب لحسدهم في الكفر. وتصدير العبارة بالحرف المؤكد ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد وليس السياق بمناسب الضحك ولا الغيظ ولا لتصميت الرسل كمناسبته لاقناطهم من القبول. ألا ترى أنهم لما أعادوا للرسل القول ولم ينكروا عليهم عودهم إلى المجادلة، دل على أنهم لم يسكتوهم أولا، ولا كان غرضهم ذلك، واللّه أعلم.
(٢). قوله «و أراب الرجل» لعله : أو أراب. (ع)