وأما الشق فالنصف، كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد. فإن قلت : ما معنى قوله : لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ كأنهم كانوا زمانا يتحملون المشاق في بلوغه حتى حملت الإبل أثقالهم. قلت :
معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة. فإن قلت : كيف طابق قوله : لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ قوله :
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ وهلا قيل : لم تكونوا حامليها إليه «١»؟ قلت : طباقه من حيث أن معناه :
وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. ويجوز أن يكون المعنى : لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس. وقيل :
أثقالكم أجرامكم. وعن عكرمة : البلد مكة لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عطف على الأنعام، أى : وخلق هؤلاء للركوب والزينة، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام. فإن قلت : لم انتصب وَزِينَةً؟ قلت : لأن مفعول له، وهو معطوف على محل لتركبوها. فإن قلت : فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد «٢»؟ قلت : لأنّ الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. وقرئ : لتركبوها زينة، بغير واو، أى : وخلقها زينة لتركبوها. أو تجعل زينة حالا منها، أى : وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ يجوز أن يريد به : ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، وإن طوى عنا علمه لحكمة
(١). قال محمود :«إن قلت كيف طابق قوله لم تكونوا بالغيه قوله وتحمل أثقالكم... الخ»؟ قال أحمد :
ويحتمل أن يكون المراد تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس واستغنى بذكر البلوغ عن ذكر حملها لأن العادة أن المسافر لا يستغنى عن أثقال يستصحبها والمعنى الأول أعلى، واللّه أعلم.
(٢). قال محمود :«إن قلت هلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد... الخ»؟ قال أحمد : يعنى فجاز أن ينتصب مجرداً من لام التعليل لأنه فعل فاعل الفعل الأول، ويعينه اقتران الركوب باللام لأنه فعل المخاطبين، ومتى لم يتحد الفاعل تعين لحاق اللام، وفي هذا الجواب نظر، فان لقائل أن يقول : كان من الممكن مجيئهما معا باللام فيأتيان على سنن واحد. ولا غرو في ذلك فالسؤال قائم، والجواب العتيد عنه : أن المقصود المعتبر الأصلى في هذه الأصناف هو الركوب. وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب «فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة التعليل، تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب، واللّه أعلم