سماع إنصاف وتدبر، لأنّ من لم يسمع بقلبه، فكأنه أصم لا يسمع.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٦]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
ذكر سيبويه الأنعام في باب مالا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم :
ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً. وأمّا فِي بُطُونِها في سورة المؤمنين، فلأنّ معناه الجمع. ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان، أحدهما : أن يكون تكثير نعم «١» كأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر «نعم» في قوله :
فِى كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ «٢»
وإذا أنث ففيه وجهان : أنه تكسير نعم. وأنه في معنى الجمع. وقرئ نُسْقِيكُمْ بالفتح والضم، وهو استئناف، كأنه قيل : كيف العبرة، فقيل نسقيكم مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ أى يخلق اللّه اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة اللّه لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله. قيل : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما. والكبد مسلطة على هذه الأصناف
(١). قوله «أن يكون تكثير نعم» لعله «تكسير» بالسين. (ع)
(٢) في كل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه
أربابه نوكى فلا يحمونه ولا يلاقون طعانا دونه
أنعم الأبناء تحسبونه هيهات هيهات لما ترجونه
لصبي من بنى أسد اسمه قيس بن الحصين الحارثي. والنعم : أسم جمع يعامل معاملة المفرد. وقد يراعى معناه فيعامل كالجمع. والأنعام عده سيبويه من المفردات المبنية على أفعال، كأخلاق وأمشاج، فيعامل بالتذكير تارة اعتباراً بلفظه، وبالتأنيث أخرى اعتباراً بمعناه. وقيل : هو جمع نعم كأسباب وسبب، والكلام تحسر وتحزن في صورة الاخبار، ويحتمل تقدير همزة الاستفهام التوبيخي أو التعجبي قبل في، أى : أفى كل عام تفعلون ذلك. وروى :
أكل عام، بالاستفهام. وكل : نصب على الظرفية. وفيه الاخبار بالزمان عن اسم العين وهو نعم. إما لأنه يشبه المعنى لتجدده كل عام كما قاله ابن مالك وغيره في مثله. أو على تقدير مضاف كما ذهب إليه جمهور البصريين» أى :
نهب نعم. وجملة تحوونه : صفة نعم، ويجوز أنها خبره، وكل عام : ظرف لتحوونه، وقدم لأنه محط الاستفهام.
وعليه فالمسوغ للابتداء بنعم وقوعه في حيز الاستفهام. أو تقديم معمول الخبر عليه لأنه كتقديم الخبر. ويلقحه قوم أى يطلقون فحوله على إناثه فتحمل عندهم. وتنتجونه أنتم : أى تستولدونه عندكم، كناية عن نهبه منهم. والأرباب الأصحاب. والنوكى : جمع أنوك كحمقى جمع أحمق وزنا ومعنى. والطعان : المطاعنة بالرماح، أى : لا يحاربون أمامه ويصبرون للحرب. وقوله أنعم : استفهام إنكارى توبيخي، أى : لا تحسبوا نعمنا نعم أولئك الحمقى الضعاف.
وهيهات بمعنى بعد، وكرره للتوكيد وقطع الأطماع. وقوله «لما ترجونه» متعلق بمحذوف، أى : أقول ذلك لما ترجونه، واللام فيه لتبيين الفاعل. ويجوز أنها زائدة فيه، والرجا : الطمع، ويجوز أنه الظن.