فإن قلت : لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم «١» قلت : لما في ذلك من ابتلاء العباد، وفي مخالفته من أعظم الثواب، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي، وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦ إلى ١٧]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
فَبِما أَغْوَيْتَنِي فبسبب إغوائك إياى لأقعدنّ لهم. وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغى ولم يثبت كما ثبتت الملائكة، مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفسا ومناصب «٢». وعن الأصم :
أمرتنى بالسجود فحملني الأنف على معصيتك. والمعنى : فبسبب وقوعى في الغىّ لأجتهدن في إغوائهم «٣» حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم. فإن قلت : بم تعلقت الباء، فإن تعلقها
(١). قال محمود :«فان قلت : لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده... الخ» قال أحمد : وهذا السؤال إنما يورده ويلتزم الجواب عنه القدرية الذين يوجبون على اللّه تعالى رعاية المصالح في أفعاله. وأما أهل السنة فقد أصغوا حق الإصغاء إلى قوله تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فلا يورد أحد منهم هذا السؤال ولا يجيب عنه من يورده، واللّه الموفق. [.....]
(٢). قوله «و من آدم أنفسا ومناصب» هذا عند المعتزلة، أما عند أهل السنه فآدم أفضل منهم. (ع)
(٣). قال محمود :«و المعنى : فبسبب وقوعي في الغى لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي... الخ» قال أحمد : تحت كلام الزمخشري هذا نزغتان من الاعتزال خفيتان :
إحداهما : تحريفه الإغواء إلى التكليف، لأنه يعتقد أن اللّه تعالى لم يغوه، أى لم يخلق له الغى بناء على قاعدة التحسين. والتقبيح والصلاح والأصلح، فيضطره اعتقاده إلى حمل الإغواء على تكليفه بالسجود، لأنه كان سبباً في غيه. وكثيراً ما يؤول أفعال اللّه تعالى إذا أسندها إلى ذاته حقيقة إلى التسبب، ويجعل ذلك من مجاز السببية، لأن الفعل له ملابسات بالفاعل والمفعول والزمان والمكان والسبب، فاسناده إلى الفاعل حقيقة، وإسناده إلى بقيتها مجاز ويجعل الفعل مسندا إلى اللّه تعالى لأنه مسببه لا أنه فاعله. وقد استدل على ذلك فيما سلف بقول مالك بن دينار لرجل رآه مقيداً محبوسا في مال عليه، هذه وضعت القيود في رجليك، وأشار إلى سلة فيها أخبصة وألوان مختلفة رآها عند المسجون، أى اعتناؤك بهذه الأطعمة كان سببا في تبذير المال الذي آل بك إلى وضع القيود في رجليك.
فعلى هذا يروم حمل هذه الآية، يعنى بما كلفتنى من التكليف الذي كان سببا في خلقي الغى لنفسي لأقعدن، فيجعل إبليس هو الفاعل في الحقيقة. وأما إسناد الفعل إلى اللّه تعالى فمجاز. هذه إحدى النزغتين.
والأخرى : جعله التكليف من جملة الأفعال، لأنه يزعم أن كلام اللّه تعالى محدث من جملة أفعاله، لا صفة من صفاته، والتكليف من الكلام، فهاتان زلتان جمع القدرية بينهما. وإبليس لعنه اللّه لم يرض واحدة منهما، لأنه نسب الإغواء إلى اللّه تعالى، إذ هو خالق كل شيء، فما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفى الشرك ما لم يسبق به إبليس؟ نعوذ باللّه من التعرض لسخط اللّه.