فإن قلت : كيف وصف بالاقتراب وقد عدّت دون هذا القول أكثر من خمسمائة عام؟
قلت : هو مقترب عند اللّه والدليل عليه قوله عزّ وجلّ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ولأنّ كلّ آت - وإن طالت أوقات استقباله وترقبه - قريب، إنما البعيد هو الذي وجد وانقرض، ولأنّ ما بقي في الدنيا أقصر وأقل مما سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيين الموعود مبعثه في آخر الزمان. وقال عليه السلام «١» «بعثت في نسم الساعة «٢»» وفي خطبة بعض المتقدّمين : ولت الدنيا حذاء، ولم تبق إلا صبابة كصبابة الإناء. وإذا كانت بقية الشيء وإن كثرت في نفسها قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليقة بأن توصف بالقلة وقصر الذرع. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما : أنّ المراد بالناس : المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين. وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى : أنهم غافلون عن حسابهم ساهون، لا يتفكرون في عاقبتهم، ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنه لا بدّ من جزاء للمحسن والمسيء، وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر، أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢ إلى ٣]
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)
قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ : بأنّ اللّه يجدّد لهم الذكر وقتا فوقتا، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر - التي هي أحق الحق وأجدّ الجدّ - إلا لعبا وتلهيا واستسخارا. والذكر : هو الطائفة النازلة من القرآن.
وقرأ ابن أبى عبلة مُحْدَثٍ بالرفع صفة على المحل. قوله وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
(١). أخرجه البزار بإسناد حسن، من حديث أبى جبير بن الضحاك الأنصارى وأخرجه الحسن بن سفيان.
ومن طريقه أبو نعيم في الحلية. وفي الباب عن المستورد بن شداد رفعه «بعثت في نفس الساعة - الحديث» أخرجه الترمذي. وقوله : وفي خطب بعض المتقدمين «ولت الدنيا حذاء لم يبق إلا صبابة كصبابة الإناء» هو عبد اللّه بن غزوان. أخرجه مسلم من حديثه مطولا.
(٢). قوله «بعثت في نسم الساعة» في الصحاح «نسم الريح» أو لها حين تقبل بلين قبل أن تشتد. ومنه الحديث «بعثت في نسم الساعة» أى حين ابتدأت وأقبلت أوائلها. والنسيم أيضا : جمع نسمة وهي النفس. (ع)